آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

ثقافة استثمار الوقت

ابراهيم الزاكي

يلزم التأكيد أولاً على أهمية أن يستثمر الإنسان بعض من أوقات حياته الثمينة في التنمية الثقافية، والتعود على عادة القراءة وتقاليدها، وكذلك تعويد الأبناء عليها منذ الصغر، لتتحول هذه الأوقات المستقطعة في حياتهم وحياتنا إلى عادة راسخة تكبر معنا جميعاً، وتنمو فينا مع الزمن، كما هو حال بعض الشعوب في الدول المتقدمة حضارياً، حيث الوقت عندهم له قدسيته، وله احترام كبير، فيهتمون بالأوقات، ويحرصون على المواعيد ويحترمونها، ويلتزمون في الانضباط بها بمقاييس الثانية والدقيقة، فلا يسمحون بتبذير أوقاتهم عبثاً.

وهنا يستحضر ”محمود تراوري“ ”الصورة الذهنية التي باتت غالبية الناس في المجتمعات العربية ترددها، وتتأسى على أننا لسنا كمجتمعات الغرب نقرأ في كل مكان، ونعترف بالقصور، ونردده بتلذذ لكننا لا نتحرك قيد أنملة للتغيير. ربما يرى البعض أن طبيعة الحياة، وحركة الفرد في تلك المجتمعات تهيئه للقراءة، من حيث توفر بنى خدمات تحتية، كخطوط المترو، ووسائل النقل العام، التي تفرغه للقراءة، بينما العربي، إما مطحون في قيادة السيارة، وسط بشر محتقنين، يتراكضون بلا هدى، أو ماشياً تطحنه هموم الوقت، مما يجعل فعل القراءة في الأماكن العامة شبه مستحيل، بينما هو فعل متاح في المجتمعات الغربية، في الحدائق والمتنزهات، مما يجعل المسافة تتقلص وتضيق بين النخب والجماهير، فيتوافق الاثنان في الانتصار للقانون والنظام“. [1] 

وإذا كان للوقت قدسيته واحترامه في ثقافة بعض المجتمعات، من حيث استثماره في التنمية الذاتية، والتعود على عادة القراءة، إلا أن هذه الثقافة غائبة أو مغيبة في مجتمعاتنا. فقلّما نجد أفراداً يقرأون في الساحات والحدائق العموميّة، أو على الشواطئ، أو في وسائل النقل، كمجتمعات الغرب التي تقرأ في كل مكان. وما يزيد الطين بله في هذا السياق هو استنزاف الأوقات وضياعها بشكل مفرط أمام شاشات أجهزة وسائل التقنية الحديثة، وإدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وتبديدها واستهلاكها فيما لا فائدة فيه، ومن دون عائد يذكر.

ولعلنا لا نخطئ القول حين نشير إلى أن الفرق بين ثقافة التقدم وثقافة التخلف هو احترام ‏الوقت. فالمؤمنون بثقافة التقدم يحرصون على استثمار الوقت استثماراً جيداً ومفيداً، ويتقنون أداء أعمالهم خلال الوقت المخصص له، مع الحرص كل الحرص على جودة العمل وإتقانه. أما في المجتمعات المتخلفة فالثقافة السائدة فيها هي ثقافة التسيب والتسويف والكسل، والتهرب من المسؤولية، وعدم الانضباط في إنجاز الأعمال، وخلق الأعذار لتبرير التأجيل والتعطيل والتأخير حتى في الأمور العادية والبسيطة.

وما أغنانا عن القول بأن الاستغلال الأمثل للوقت عادة ونمط حياة، وسلوك يومي يتم التعود عليه مع الممارسة. وما على الإنسان الذي يؤمن بثقافة التقدم إلا أن يعرف كيف يستغل وقته فيما يفيد وينفع، وألا يهدر أوقاته فيما لا فائدة ترجى منه، وأن يستثمر أوقاته بطريقة سليمة وفعَّالة، خصوصاً مع التطور المتسارع في أنظمة الاتصال والتواصل وأجهزتها المتطورة، بحيث يمكن أن تستغل أوقات استخدام الأجهزة الذكية، ووسائل التقنية الحديثة في التنمية الثقافية، والتعود على ممارسة عادة القراءة، فالوسائط التقنية أصبحت توفر مجال واسع للقراءة يتجاوز كل حدود.

علاوة على ذلك يمكن أن تستغل الأجهزة الذكية في تعويد الأبناء على عادة القراءة، وتدريبهم عليها، وتطوير مهاراتهم، وصقل قدراتهم وتنمية قدراتهم الذاتية، وخصوصاً أيام العطل والإجازات حيث يكون لدى الأبناء أوقات فراغ طويلة، ولا يتم استغلال هذه الأوقات بالشكل الأمثل في غرس عادة القراءة عند الصغار وبما ينفعهم ويرتقي بهم، حيث تستنزف معظم أوقاتهم في اللعب واللهو، وصرف ساعات الحياة الثمينة بالتبلد أمام شاشات التلفاز، والتسمر أمام شاشات الحواسيب، والألعاب الإلكترونية والهواتف الذكية، والآي فون، والآي باد، بطريقة تشتت الذهن، وتسلب العقل، ومن دون فائدة تحصد، أو مهارة تنمو، أو موهبة تكتشف، أو علم يكتسب وينتفع به.

نحن في الواقع بحاجة إلى تأصيل قيمة الوقت واحترامه عند الأبناء من خلال التربية أولاً داخل الأسرة منذ الصغر، وتنشئتهم وتعليمهم على النظام والانضباط الوقتي وتعويدهم على الالتزام بالمواعيد وعدم تجاوزها، وبعد ذلك من خلال المدرسة والجامعة وأماكن الأعمال. فحين يتم تعزيز هذه السمة في الإنسان عبر تلك القنوات خلال مراحل حياته فإنه يكبر وتكبر معه قيمة احترام الوقت. فاحترام الوقت من القيم والفضائل والركائز المهمة الذي إذا ما تربى عليها الإنسان وتم غرسها في شخصيته منذ بواكير سنه أصبحت عادة في سلوكه، وتحولت إلى منهاج حياتي دائم.

غير أن الملاحظ أن مثل هذه القيمة والفضيلة ليست من العادات الاجتماعية والممارسة الحياتية اليومية، بل يمكن عدُّها من القيم الضائعة، أو المنسية، أو الغير مفكر فيها. فثقافة الوقت وقيمته وكيفية الاستفادة منه، ليست سمة من سمات شخصية الأجيال الطالعة. فتوزيع ساعات اليوم بين التًّعلُم والتًّثقُف وممارسة الهوايات واللعب، ليس أمراً ذي بال، أو موضع اهتمام، خاصة عند الشباب، الذين هم الطاقة الحقيقية للعمل والإنتاج في أي مجتمع، فهم لا يدركون قيمة الوقت، ولا يُفرِّقون كثيراً بين أوقات الجد وأوقات اللهو، ويتجاهلون أمر تنظيم أوقاتهم، ويتركون أمرها اعتماداً على الارتجال، أو الصدف، أو كيفما أتفق، ويُضيِّعون أوقاتهم فيما لا طائلة من ورائه على الرغم من أهمية الوقت لحياتهم ومستقبلهم.

صفوة القول إن قضاء الساعات الطوال ومعظم أوقات اليقظة أمام شاشات التلفاز والأجهزة الإلكترونية بقصد اللهو والتسلية يستنزف وقت الإنسان وطاقته من دون مردود إيجابي، ويؤدي إلى عواقب سلبية ومضرَّة. ومن واجب أولياء الأمور إيضاح الطرق المثلى والصحيحة لاستخدام هذه التقنية وتنظيم أوقات استخدامها، وأن يكونوا هم أنفسهم قدوة لهم في كيفية التعامل مع الأجهزة التقنية وفي تنظيم أوقاتهم. فحين تكون البيئة المحيطة بالطفل تهتم بالوقت وتحترمه عندها تكون بمثابة النموذج والقدوة العملية في احترام الوقت من قبل المحيطين. فليس من المتوقع أن يعي الطفل قيمة الوقت وأهميته حين يرى المحيطين به لا يلتزمون بأوقاتهم، أو يعبثون بها.

مرة أخرى نعود ونؤكد على أهمية الوقت واستثماره. فمن دون الاستغلال الأمثل للوقت لن يكون هناك تقدم، أو نهضة، أو تنمية. ولن تستطيع أي أمة بناء نهضتها إذا لم يدرك أبنائها قيمة الوقت، ويحرصوا على استثماره بطريقة خلَّاقة من خلال العمل الدائب والمستمر على عمارته، والحذر الشديد من أن يضيع شيء منه في غير جدوى، وأن يحرصوا كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم، أو برهة من الزمان من دون أن يتزودوا منها بعلم نافع، أو عمل صالح، حتى لا تتسرب الأعمار سدى وتضيع هباء وتذهب جفاء.

[1]  حين ينتصر المثقف للفوضى. محمود تراوري. جريدة الوطن السعودية. 10/09/2012