سؤال التعددية المذهبية عند الإسلاميين في الخليج
تعيش منطقة الخليج العربي اليوم، الكثير من التحديات والصعوبات، والتي تؤثر في راهن الخليج ومستقبله. ولا ريب أن البحث عن الصيغ المناسبة للتعامل مع هذه التحديات والصعوبات، سيمكن المجال الخليجي من الخروج من هذه المحن بأقل خسائر ممكنة.
ولعل من أبرز هذه التحديات [التحدي الطائفي] حيث برزت في الآونة الأخيرة ولعوامل عديدة مقولة الانتماءات الطائفية في منطقة الخليج، وبدأت عملية الاصطفافات الطائفية، التي تهدد الوحدة الوطنية لأكثر من بلد خليجي، وتعيد المجال الخليجي بأسره إلى المربع الأول الذي يحافظ فيه على أمنه واستقراره ووحدته.
من هنا فإن مدارسة سؤال التعددية المذهبية في دول المنطقة اليوم، يعد من الضرورات القصوى، حتى تتمكن النخب السياسية والاجتماعية والثقافية من اجتراح رؤية عميقة وموضوعية للتعامل مع هذا السؤال بعيدا عن التهويل أو التهوين. وطرح هذا السؤال والتفاكر المشترك حوله، ليس من أجل الانحباس فيه أو التعلق بعناوينه التاريخية، وإنما من أجل صياغة رؤية خليجية متكاملة تجيب على الأبعاد المختلفة لسؤال التعددية المذهبية في المجال الخليجي..
والذي يفاقم من خطر هذا التحدي ومتوالياته السيئة على واقع المنطقة على الصعد السياسية والأمنية والاجتماعية هو الأسباب التالية:
1. غياب رؤية واضحة ومتكاملة لدى مؤسسة الدولة، في التعامل مع حقيقة التعددية المذهبية الموجودة في مجتمعات الخليج.. ولا ريب أن غياب استراتيجية رسمية ووطنية في التعامل الشامل مع هذه الحقيقة، جعل هذه المسألة بعناوينها المختلفة، عرضة لتأثيرات اللحظة وطبيعة الظروف السياسية السائدة..
لهذا فإننا نعتقد أن بناء رؤية وطنية شاملة، في التعامل والتعاطي مع حقيقة التعددية المذهبية، ستساهم في معالجة الكثير من الظواهر السيئة التي ترتبت على غياب ما نستطيع تسميته ب «الإدارة الحضارية لواقع التعددية المذهبية في منطقة الخليج»..
2. عدم قدرة الإسلاميين بكل تلاوينهم وتياراتهم من بناء رؤية متكاملة في طريقة التعامل مع واقع التعددية المذهبية في منطقة الخليج.. فخلال الثلاثين سنة الماضية، أضحى سؤال الطائفية مطروحا بقوة في الساحة الاجتماعية والسياسية والأمنية الخليجية، وجرت أحداث خطيرة ومتعددة، لا تخرج عن نطاق التحدي الطائفي والذي يبرز في بلدان الخليج بتفاوت ملحوظ في طبيعته وطرق التعامل معه وأسبابه الذاتية والموضوعية وما هي تأثيرات الخارج عليه.
إلا أن القاسم المشترك لكل هذا هو عدم قدرة الإسلاميين وشخصياتهم العلمية والفكرية من بناء رؤية متكاملة في التعامل مع حقيقة التعددية المذهبية.
وعطاء الإسلاميين الدعوي والفكري في غالبه الأعم، لا يتعدى الحديث عن طبيعة العلاقة بين السنة والشيعة بوصفهما فرقا إسلامية، كل طرف يمتلك على الآخر المذهبي ملاحظات عقدية أو فكرية أو ما أشبه ذلك..
والمحاضرات والفتاوى العديدة، التي صدرت من بعض علماء الخليج في تكفير الشيعة لا تخرج عن هذا السياق.
والنقص البنيوي الذي لم يلتفت إليه غالب الإسلاميين في الخليج على هذا الصعيد، هو عدم التفريق بين الشيعة أو الأباضية أو الزيدية كجماعات مذهبية وبين هذه الحقائق بوصفها جماعات بشرية تعيش في الخليج ولها مصالح وتطلعات سياسية واجتماعية وثقافية.. فاستغراق أغلب الإسلاميين في التعامل مع هذه العناوين بوصفها عناوين عقدية وتاريخية، استدعى بشكل أو بآخر التراث التاريخي لدى جميع الأطراف وهو تراث ملئ بالكثير من الحمولات السلبية تجاه الآخر المذهبي وفتح المجال للفتوى الدينية التي تطلق أحكام التكفير والتضليل دون مراعاة طبيعة الظروف أو دون التعريف على هذه الجماعة كما هم الآن وليس كما تقرر الكتب التاريخية ذات الطابع السجالي.
وصور هذا النهج المتشدد كثيرة ومتعددة تبدأ بالفتوى الدينية مرورا باستحضار التاريخ وأحداثه والاتهامات المتبادلة المترتبة على ذلك وانتهاءا بخطابات التعبئة والتحريض وخلق الحواجز بكل أصنافها بين المواطنين لاعتبارات مذهبية وطائفية.
لهذا فإننا نستطيع القول: أن عطاءات الإسلاميين خلال هذه الفترة، كان في مجمله عطاء سلبيا فيما يتعلق وحقيقة التعددية المذهبية في منطقة الخليج.
فالاستغراق التاريخي والتقليدي، أدى إلى إبراز الحمولات العقدية والفتوائية فيما يتعلق والعلاقة بين المختلفين مذهبيا وأعاد صنع واستحضار التوترات التاريخية، وعملت التوترات السياسية في الخليج وبالذات في حقبة الثمانينات فعلها السلبي والخطير على صعيد تأزيم العلاقة وتوتيرها بين المكونات المذهبية في الخليج. فساد من جراء هذا وعوامل أخرى ذاتية وموضوعية الخطاب الإسلامي المغلق والمتشدد في منطقة الخليج.
فالخطاب الإسلامي للجماعات السنية، اندفع نحو تحديد الحدود العقدية بين الإسلام الصحيح ووفق رؤيتهم وبين الإسلام غير الصحيح، فازدادت الحواجز والهواجس بين الإسلاميين السنة والإسلاميين الشيعة وكانت العوامل السياسية الداخلية والإقليمية تغذي بشكل أو بآخر هذه المفاصلة الشعورية والعملية بين الجماعات الإسلامية المذهبية.
فالأكثرية الإسلامية اندفعت نحو المزيد من التشدد تجاه الآخر المذهبي لاعتبارات عقدية ومذهبية وسياسية. والأقلية الإسلامية اتجهت بفعل هذه الضغوط القادمة من الآخر الإسلامي ومن طبيعة تركيبتها الثقافية وخياراتها السياسية للمزيد من الانكفاء والعزلة والانطواء.
ولذلك أصبح لدينا في كل مجتمع خليجي، أكثر من مجتمع، وكل مجتمع تحدد معالمه وطبيعته بفعل انتماءه المذهبي.. وتراكمت بفعل كل هذا الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية بين الجماعات والمجتمعات، وسادت عمليات الريبة والخوف المتبادل، وأصبح المناخ النفسي والاجتماعي مهيئا لتصديق أية مقولة تقال ضد الآخر المذهبي، ولانفجار أي توتر سواء بعنوان سياسي أو اجتماعي، داخلي أو خارجي.
وعليه أستطيع القول: أن الإسلام الأصولي في دائرتيه السنية والشيعية، ساهم في تجذير الحواجز الطائفية، وفاقم من التمايزات المذهبية، وشحن النفوس والعقول بمقولات طائفية تزيد من الانفصال النفسي وتشعل الواقع الاجتماعي لأتفه الأسباب.
فالجماعات المذهبية في الخليج قديمة قدم المجتمعات الخليجية نفسها.. ولكن في زمن ما يمكن تسميته ب «الإسلام الشعبي»، كان مستوى التداخل والتعاون والتواصل بين هذه الجماعات معقولا، ولم تكن هناك عوامل سلبية ضاغطة باتجاه التباعد والتحاجز بين أهل هذه الجماعات المذهبية. وفي مناطق التداخل المباشر بين هذه الجماعات كالبحرين ومنطقتي الأحساء والقطيف في المملكة العربية السعودية، كانت العلاقة في مجملها طبيعية وودية، وذكريات الآباء والأجداد على هذا الصعيد مليئة بصور الألفة والمحبة والتداخل الطبيعي والتواصل الحر بين أهل الجماعات المذهبية التي تعيش في رقعة جغرافية واحدة.
أما في مرحلة «الإسلام الأصولي» فقد سادت نزعات الغلو والتشدد والانكفاء عن الذات والبحث عن المجتمع والهوية الخالصة. وتوفرت من جراء هذه الثقافة كل موجبات التحاجز والتباعد والتباغض بين مختلف المكونات والتعبيرات المذهبية في الاجتماع الخليجي.
ونحن في هذه المرحلة نعيش فترة النتائج المترتبة على هذا الخطاب.. لهذا فإن العلاقة بين المكونات المذهبية في الخليج علاقة هشة وبعيدة عن الاستقرار وأصبح الاجتماع الخليجي على هذا الصعيد ساحة مكشوفة للصراعات والتوترات المذهبية التي تجري في المجالين العربي والإسلامي.
فما جرى في العراق من اقتتال طائفي، انعكس سلبا على مجتمعات الخليج. وبحث كل طرف في الخليج عن مبررات ومسوغات ما يقوم به امتداده المذهبي في العراق. وحينما تفاقمت الأزمة السياسية في لبنان، انعكست مذهبيا على منطقة الخليج.
فبدل أن يكون جهدنا تحصين ساحاتنا الداخلية، أصبح كل طرف منا يتمترس حول عناوينه المذهبية، وبدل أن نقوم بمبادرات مشتركة لوأد الفتنة الطائفية في العراق أو لبنان أو باكستان أضحى الجميع أسارى ما يجري من أحداث وتوترات طائفية في هذه المناطق.
وهذا يكشف بشكل لا لبس فيه: أن العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في الخليج، لا زالت علاقة هشة وضعيفة، وتتحكم فيها عناصر سلبية كثيرة.
ولا ريب أن غياب الرؤية الواضحة لدى إسلاميي الخليج حول هذه المسألة، يفاقم من الأخطار والتوترات. كما أن غياب مشروع وطني متكامل تقوده الدولة حول هذه المسألة أيضا، يعزز من فرص التوتر، ويجذر عناصر التباين والاختلاف.
إلا أنه في الفترة الأخيرة برزت بعض الطروحات والمشاريع التي تستهدف بناء رؤية جديدة في التعامل مع هذه الحقيقة / المشكلة.
وسأعمل بشكل سريع على التعريف بثلاثة جهود رئيسية في هذا السبيل:
1. العطاء الثقافي الجديد للشيخ سلمان العودة، وهو أحد أعلام ورموز المدرسة السلفية في المملكة والخليج، فهو مع قناعته بوجود اختلافات وتباينات في الأصول بين السنة والشيعة، إلا أنه على صعيد ضمان حقوق المواطنين. فهو يرى أهمية صيانة واحترام حقوق الشيعة كمواطنين. فالاختلاف العقدي والمذهبي، لا يشرع لأحد حق الافتئات على حقوق المواطنين. فهذه الحقوق ينبغي أن تكون مصانة ومحترمة، بصرف النظر عن موقفنا العقدي أو المذهبي من الآخر.
ولقد ألقى الشيخ سلمان العودة في سبيل بيان رؤيته حول المسألة العديد من المحاضرات والحوارات الإعلامية التلفزيونية، وألف بعض الكتب من أبرزها كتاب «الأمة الواحدة» وكتاب «ولا يزالون مختلفين».
إذ يقول في كتابه «الأمة الواحدة» "وقد كان في الصحابة المهاجرون والأنصار، والإسلام لم يلغ هذه الأسماء، بل قررها وجعل فيها مجالا للمنافسة في الخير والمسابقة في الطاعة، وحسن البلاء في الجهاد، وغير ذلك.
كما أن الوحدة المفتعلة بين المسلمين لا جدوى منها الآن، فبعضهم قد يتحمس إلى توحيد الأمة، أو توحيد الجماعات العاملة للإسلام، أو توحيد العلماء مثلا دون أن يكون عندهم تصور واضح عما يمكن التوحيد عليه، وعن البرنامج الذي يمكن أن يجمعهم والمنهج الذي يمكن أن يوحدهم.
ولكن نقول: يكفي أن ننتهي عن الخصام والشقاق والتشاحن والبغضاء، ولتحل محل ذلك أخوة الإسلام، وأن تبدأ أنماط معقولة من التعاون على البر والتقوى، وفي المشاريع المشتركة علمية كانت، أو اقتصادية، أو دعوية، أو إعلامية، أو غير ذلك، وأن نعمق وحدة العقيدة في الأمة، ونجتهد في تصحيح مفاهيم الناس حول القضايا الضرورية ومجملات الدين التي لا بد من تعليمها لهم عن عقيدتهم، عن ربهم، عن نبيهم، عن قرآنهم، عن تاريخهم، ولو لم يتحقق وحدة الكيان الإسلامي بشكل عام في هذه المرحلة.
يكفي أن نربي الشباب في محاضنهم على أصل الانتماء لهذه الأمة، وألا تكون انتماءاتهم الثانوية بديلا عن هذا الانتساب العام ".
ويشير أيضا إلى أهمية الحوار والتواصل بين المختلفين، في كتابه «ولا يزالون مختلفين» بقوله "إن المناظرة الهادئة العلمية من أساليب الوصول إلى الحق، والتقريب بين المختلفين والمتنازعين، وأما هذه المناظرات التي تعقد في القنوات الفضائية، سواء دارت حول قضايا سياسية، أو قضايا عقدية، أو قضايا فكرية أو غيرها؛ فإن منها ما يتصف بالهدوء وطول النفس، والواقعية والاعتدال، وهذه مناظرات جيدة تربي الجمهور على الاستماع، وعلى النظر وتقبل الرأي الآخر.
لكن ثمة ألوانا من المناظرات يقصد بها حشد الأتباع، وهي تتميز بكثير من المغالطات والقفز فوق النتائج، وعدم الوصول إلى نقاط محددة، فتأخذ من أوقات الناس وتستنزف من جهودهم الشيء الكثير، إضافة إلى أنها تزيد الناس لجاجة وتعصبا وبغضا فيما بينهم، فلا تقرب بين المختلفين، ولا تكشف باطلا، ولا تنصر حقا، وربما يكون قصاراها - في الغالب - أن تكون لونا من الإثارة الإعلامية التي ينبغي أن ترشد وتضبط، وتحول إلى قدر من الهدوء والاعتدال".
وإننا في هذا السياق ندعو فضيلة الشيخ سلمان العودة وأقرانه من مشايخ الصحوة الإسلامية في المملكة، إلى العناية والاهتمام بالمسألة الطائفية، لأنها تؤثر على حاضر الوطن والأمة ومستقبلها.
وإن الاقتراب المعرفي والثقافي من هذه المسألة، سيساهم في بناء رؤية متكاملة عن هذه المسألة وطرق معالجتها وسبل إجهاض كل المحاولات الداخلية والخارجية، التي تستهدف إذكاء الفتن الطائفية في مجتمعاتنا ومنطقتنا.
2. الجهد الفكري والإعلامي والاجتماعي الذي يبذله فضيلة الشيخ حسن الصفار، وهو أحد الرموز الدينية الشيعية في المملكة العربية السعودية حيث بلور رؤيته حول هذه المسألة في مجموعة من المؤلفات منها «التعددية والحرية في الإسلام بحث في حرية المعتقد وتعدد المذاهب» و«الشيعة والسلفيون نحو علاقة أفضل» و«رؤية في السجال المذهبي» و«المشكل الطائفي والمسؤولية الوطنية» و«التنوع والتعايش» و«الانفتاح بين المصالح والهواجس» و«السلم الاجتماعي مقوماته وحمايته» و«الحوار المذهبي والمسار الصحيح» و«الطائفية بين السياسة والدين».
والشيخ الصفار يرى أن الخطوة الأولى في مشروع إنهاء المشكلة الطائفية في المنطقة هو وجود إرادة سياسية لمعالجة هذه المشكلة وتداعياتها المختلفة. إذ يقول: "الدولة بوسائل إعلامها وبمناهج التدريس، عليها أن تسعى لنشر ثقافة التسامح وأعتقد أننا نحتاج إلى حالة طوارئ على هذا الصعيد.
لماذا؟
لأننا عانينا كثيرا من ثقافة الإقصاء والحض على الكراهية ووضع الحواجز بين المواطنين لاختلاف آرائهم، مذاهبهم، توجهاتهم.
الانتقال من هذه الحالة إلى أخرى يستلزم مضاعفة الجهود، وإطلاق برنامج ثقافي تنويري واسع، تربويا وإعلاميا، من أجل تدشين مرحلة جديدة ليتجاوز الوطن آثار تلك الثقافة الإقصائية ".
ويضيف ”ليس مقبولا أبدا أن يكون هناك تحريض على الكراهية، والإساءة إلى شرائح من المواطنين في وسائل الإعلام، وفي فتاوى تنشر، والدولة لا تحرك ساكنا. والغريب أنه في الوقت الذي يكثر فيه الكلام وتصدر بيانات من هيئة كبار العلماء ضد التكفير وتخطئة المكفرين، في الوقت نفسه يصدر من بعض العلماء ما مضمونه التكفير ضد شرائح من المواطنين. وكأن التكفير المحظور والممنوع هو تكفير الدولة فقط. وجماعة الدولة. أما إذا كفرت الآخرين، فخذ حريتك، ليس ممنوعا!“.
وأعتقد ومن خلال قراءة متأنية في كتب الشيخ الصفار، أن عطاءات الشيخ الصفار على هذا الصعيد من أبرز العطاءات وأميزها، والتي قاربت المشكلة الطائفية في المنطقة من زوايا متعددة.
3. الدراسة الهامة التي كتبها الدكتور محمد حامد الأحمري في مجلة العصر بعنوان «رؤية للمعضلة الشيعية». والدكتور الأحمري من مفكري الصحوة الإسلامية، وله عطاءات فكرية وثقافية متميزة. كما أن مقولاته الفكرية وتحليلاته السياسية، تحضى بعناية متميزة لدى مختلف التيارات الدينية في المملكة.
وفيما يرتبط بالمسألة الطائفية والعلاقة بين السنة والشيعة، فإن الدراسة الآنفة الذكر التي كتبها الدكتور الأحمري، تشكل نقلة نوعية في رؤية التيار السلفي في المملكة حول المسألة الطائفية. حيث إنه اقترب من هذه المشكلة، وناقشها من زوايا ثقافية واجتماعية وسياسية، ووصل إلى قناعة مركزية مفادها أهمية أن يسعى الجميع على الصعيد الوطني، لمعالجة هذه المشكلة، وأن استمرار هذه المشكلة بدون علاج حكيم، سيترك تداعيات خطيرة على راهن الوطن ومستقبله.
إذ يقول الدكتور الأحمري في دراسته ”البقاء على كراسي التحريض والراحة والمعرفة التاريخية الورقية بالآخرين، ولوم التشيع وشتم الفرس ليس عملا في الأزمة، بل قد يكون حلبا في آنية الخصوم، بل العمل، تبين الموقف أولا ثم الذهاب للناس، ولقاء الفرس والعرب، البدو والحضر، والمثقفين والعامة، فهذا عمل هداية ويسخفف من الحنق، ويجلو الحق، ويفتح باب المعرفة، ولو لم يتغير مذهب أحد، فإنه يوقف الناس على الكثير من الحقائق، ويزيل عن رؤوس الطرفين الأوهام والخرافات المتبادلة التي يصنعها النكران والبعد والوحشة من المخالف الغريب“.
وإضافة إلى هذه الجهود، هناك شخصيات وجهود عديدة، ساهمت ولا زالت في مشروع التفاهم والتلاقي ووأد الفتنة الطائفية في المنطقة. ومن هذه الأسماء والشخصيات: الشيخ عبد اللطيف المحمود والشيخ عبد الله بن منيع والشيخ فوزي آل سيف والشيخ عبد المحسن العبيكان والشيخ حسين الراضي والدكتور عبد الحميد الأنصاري وساجد العبدلي وعبد الله فراج الشريف وحسن فرحان المالكي وحاكم المطيري وضياء الموسوي وعبدالله فدعق وعبد الرحمن الزنيدي ومحمد علي الهرفي والشيخ محمد صالح العلي والدكتور توفيق السيف وسعيد حارب ومحمد بن علي المحمود وزكي الميلاد ويوسف أبا الخيل وأحمد شهاب وعبد الرحمن المحرج وغيرهم من الشخصيات التي تدرك أهمية العمل لتنقية أجواء مجتمعاتنا من أسباب التوتر المذهبي والطائفي، وتعمل عبر كتاباتها أو مبادراتها في صياغة مواثيق ومبادرات تضمن حق الجميع في إطار مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات.
ولا بد أن يدرك جميع الإسلاميين في الخليج، أن استمرار التوتر المذهبي، وتفاقم الأزمات الطائفية، يضر بالدرجة الأولى بمشروعهم وبحركة الدعوة الإسلامية وباستقرار المنطقة على الصعد كافة، لذلك من المهم بناء رؤية إسلامية متكاملة في التعامل مع ظاهرة الطائفية في المجتمعات الخليجية. وذلك لأن "سياسات التمييز الطائفي، هي من أهم منافذ المحاولات الخارجية لإثارة الفتن المذهبية في أوطان المسلمين، فلا بد من إغلاق هذا المنفذ الخطير، بتحقيق مفهوم المواطنة، وتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات.
ويجب أن يبادر الإسلاميون من السنة والشيعة لإعلان رفضهم، وكفاحهم ضد سياسات التمييز الطائفي، والتبشير بمبدأ المساواة بين المواطنين، ومواجهة أي تمييز طائفي تتعرض له فئة من السنة في وسط شيعي، أو فئة من الشيعة في وسط سني".
وهذا بطبيعة الحال يتطلب من جميع الأطراف تأسيس ثقافة دينية جديدة، تقبل الآخر وتعترف بحقوقه الخاصة والعامة، والقيام بمبادرات اجتماعية وثقافية، تنهي حالة القطيعة والجفاء وتطبع العلاقة بين أهل المذاهب الإسلامية في مختلف المجالات. وتحصن الأوضاع الوطنية من كل المخاطر الداخلية والخارجية، التي تهدد أمن واستقرار أوطاننا ومجتمعاتنا في الخليج.
في ظل التطورات الكبرى والمتسارعة التي تمر بها المنطقة، تتأكد أهمية تمتين الجبهة الداخلية ورص الصفوف وتقوية أسباب الوحدة الوطنية. إذ أن من الخيارات الحيوية التي نستطيع من خلالها مجابهة التحديات والاستجابة الواعية لها، هو خيار تأكيد وتعميق الوحدة الوطنية.
وإن الخطوة الأولى الضرورية في هذا السياق، هي أن نتجاوز الخطابات الإطلاقية أو الكلانية، التي ترى الوحدة بمنظور شوفيني، ينزع إلى إلغاء التنوعات وإقصاء كل حالات التنوع والاختلاف، ويعتبرهما جميعا من عوائق الوحدة ومضادات التوافق الداخلي. لهذا فإن مفهوم الوحدة بحاجة أن ينفتح ويتواصل مع كل التجارب الوحدوية والتوافقية، التي استطاعت أن تؤسس لذات وطنية قوية، قوامها المزيد من الاحترام الوجودي والمؤسسي لكل التعبيرات الثقافية والمجتمعية ومكونات المجتمع.
وهذا يتطلب بناء المواطنة وصياغة العلاقات الداخلية للمجتمع الواحد على أسس المساواة والعدالة. وذلك لأن المواطنة ليست هوية جامدة، وإنما هي حيوية ومفتوحة على جميع الروافد، وتستفيد من كل الاجتهادات والآراء وذلك لإثراء مضمونها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية والإنسانية.
لذلك فإن الوحدة الوطنية الصلبة، هي التي تبني مواطنة قوية تتواصل مع كل التعبيرات وتنفتح على كل المكونات.
وهذا يتطلب الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي - حواري، ينمي المشتركات، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف.
فالمطلوب من أجل بناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، هو أن ننفتح على مساحات الاختلاف ونتواصل مع المختلفين، من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من آليات العجز، وتجعلنا نقتحم آفاق جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفهوم الوحدة والتوافق الداخلي.
فالوحدة الحقيقية لا يمكن أن تعيش إلا في ظل المواطنة الكاملة. ومن الأهمية أن ندرك أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم يلغِ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط. وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعي لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي. ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى.
والإنسان الذي يعيش الوحدة، هو الذي يحترم خصوصية صاحبه كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته. عندما تكون وحدويا، فإن عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما يشاء، تحميه من كل عواطفك وانفعالاتك، تحميه من كل ذلك وتقاتل في سبيل حريته.
وإننا في هذه اللحظة التاريخية، نهيب بجميع مكونات المجتمع الوطني، إلى ضرورة الانفتاح والتواصل مع بعضهم، وذلك من أجل تمتين الجبهة الداخلية وتعميق خيار التوافق وتجذير أسباب الوئام والالتحام الوطني. فلتتحول كل الجهود والطاقات صوب فريضة الوحدة، وذلك من أجل حمايتها وتطويرها.
وإن السماح بتصدع هذا المشروع أو ضرب بنيته الأصلية، يعد جرماً خطيراً بحق الوطن والمجتمع حاضراً ومستقبلاً. لهذا فإن الوحدة الاجتماعية والوطنية وضروراتهما ومتطلباتهما ينبغي أن تتصدر الأولويات والهموم. وبوصف الوحدة مشروعاً ينبغي تعزيزه وحمايته، هو بحاجة إلى آليات متقنة وأدوات فاعلة وإجراءات تفصيلية متواصلة. كما أنه بحاجة إلى مراجعات فكرية وأيدلوجية، تزيل من الأنظمة المعرفية ما يحول دون تعزيز هذا المشروع.
فاليوم كل بلدان المنطقة مهددة في وحدتها الداخلية والوطنية، حيث تواجه تحديات ومخاطر تستهدف كيانها ووحدتها. ولا يمكننا أمام هذا الزحف التقسيمي الذي يتغذى من عوامل وروافد عديدة، أن نبقى مكتوفي الأيدي، وإنما نحن بحاجة إلى منظومة مواجهة تمكننا من إحباط هذه المخططات وصيانة وحدتنا الداخلية بالمزيد من التلاحم والانسجام.
فالإرادات السياسية التي تستهدف بشكل أو بآخر التفتيت والتشظي، لا يمكن مواجهتها بالخطب البلاغية والرغبات المفتوحة التي لا تستند إلى إرادة وفعل متواصلين.
إن هذه الإرادات بكل أدواتها وآليات عملها، بحاجة إلى إرادة سياسية داخلية تعقد العزم على الصمود والحماية وتعمل على سد الثغرات وبناء الحياة السياسية والثقافية في هذه المنطقة على أسس جديدة، تنهي عقود الفجوة والانفصال بين السلطة والمجتمع، وتعمل على توفير البيئة المناسبة والحاضنة لمشاركة جميع قوى وتعبيرات المجتمع في الحياة العامة.
وحدها الحياة السياسية الجديدة، التي تتجاوز حالات الاستئثار والاستفراد، هي القادرة على إحباط مخططات التفتيت والتشظي ومواجهة المخاطر والتحديات التي تستهدف وحدتنا واستقرارنا الداخلي. لهذا كله فإننا نشعر اليوم بأهمية تجديد مشروع الوحدة الداخلية والوطنية في كل بلدان المنطقة، التجديد الذي يحمي المكاسب ويواجه الثغرات. التجديد الذي يقبض على حقيقة الوحدة دون أن يضحي بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية. التجديد الذي يعيد صياغة واقعه الداخلي كوسيلة حضارية لمواجهة كل التحديات والمخاطر.
من هنا فإن تجديد المشروع الوطني يقتضي إعادة صياغة العلاقة بين مكونات المجتمع والوطن الواحد على أسس العدالة والمساواة واحترام الخصوصيات الثقافية لكل مكون وتعبير اجتماعي. فالوحدة ليست فرضاً وقهراً بل هي تعبير عميق عن مشاركة الجميع في صنع الحقائق والمنجز الوطني. وكل الوحدات التي بنيت بالقهر وتغييب إرادة المجتمع بكل تنوعاته، كان مآلها الفشل والتشظي.
لذلك فإن تجديد المشروع الوطني يبدأ بإعادة صياغة الوعي الوطني تجاه ذاته ووحدته. فالوعي الذي ينبذ التعددية ويحارب التنوع ويتوجس خيفة من الاختلاف، لا يخلق وحدة صلبة في المجتمع الواحد. لأنه وعي يشرع للقهر والتغييب والعمل بعيداً عن إرادة المجتمع وطموحاته وحقائقه.
أما الوعي الذي يتشكل من خلال الحوار والتبادل المعرفي والاحترام المتبادل بين كل المكونات، فإنه قادر على نحت ونسج علاقة جديدة بين مكونات المجتمع والوطن. هذه العلاقة التي تدفع بجميع التعبيرات للمساهمة الفعالة في بناء الوحدة وصيانة المنجز والمكاسب.
فالوحدة الصلبة والحقيقية هي ناتج مجموع إرادة الجميع وكفاحهم وسعيهم المتواصل لبناء واقعهم ومستقبلهم. فالوحدة ليست مقولة مفرغة من مضمونها الإنساني والحضاري، بل هي عنوان لتآخي وتكاتف وتفاعل كل التعدديات والتنوعات الموجودة في المجتمع والوطن. فالوحدة في المجتمع والوطن، لا تبنى بسياسات التغييب والإقصاء والتهميش، بل بإفساح المجال لكل المكونات للمساهمة في الشأن العام.
وعليه فإن تجديد المشروع الوطني في هذه اللحظة التاريخية الهامة، يقتضي الالتزام بالعناصر التالية:
1. تجديد الوعي الوطني بحيث لا يكون المختلف موضوعاً للنبذ والكراهية والعداء، بل هو فضاء للحوار والتفاهم والاحترام. كما أن العلاقات الداخلية بين مكونات المجتمع، بحاجة أن تقوم على أسس المعرفة المتبادلة التي تقود إلى توسيع المشتركات وضبط الاختلافات في حدود لا تضر بمفهوم الاستقرار والسلم الاجتماعي. لذلك كله فإن الخطوة الأولى في مشروع التجديد الوطني، هي في تجديد رؤيتنا جميعاً لذواتنا ولمكونات الوطن الثقافية والاجتماعية. بحيث تقودنا هذه الرؤية إلى المزيد من التعارف والتواصل ونسج العلاقات والتعاون على قاعدة التفاهم والاحترام المتبادل.
2. إن الوحدات الداخلية والوطنية في كل دول المنطقة، لا تبنى بسياسات القمع والإقصاء ونهج التغييب وإفناء أو محاصرة الحقائق الثقافية والاجتماعية. بل على العكس من ذلك تماماً. إذ إن الوحدة لا تبنى إلا بصيانة حقائق التعددية في المجتمع. ومن يبحث عن الوحدة بعيداً عن مقتضيات احترام التعددية والتنوع الموجود في المجتمع، فإنه لن يحصد إلا المزيد من التفتت والتشظي الكامن والصريح. لذلك فإن تجديد المشروع الوطني، يقتضي العمل على تعزيز وبناء الوحدة الداخلية لكل مجتمعاتنا على قاعدة احترام التعددية وإفساح المجال القانوني لكل المكونات للتعبير عن ذاتها وثقافتها ومساهمتها في الحياة العامة.
فطريق الوحدة هو تعزيز خيار الحرية والديمقراطية في المجتمع. ولا يمكن بناء حقائق وحدوية صلبة ومتينة بعيداً عن الحرية وصيانة حقوق الإنسان. فالتنكيل بحقائق المجتمع العميقة، لا يفضي إلى استقرار ووحدة، بل إلى انهيار في أسس الاستقرار وعوامل الائتلاف والوحدة. من هنا وفي ظل هذه الظروف والتطورات الخطيرة، نتطلع إلى الوحدة والاستقرار، ولا سبيل أمامنا لذلك إلا بإصلاح أوضاعنا وأحوالنا، وإطلاق الحرية لكل مكونات المجتمع لكي تعبر عن ذاتها بحرية وشفافية وتبدأ على هذه القاعدة بإنجاز دورها ووظيفتها في الوحدة والاستقرار.
3. من الطبيعي القول: أن تجديد المشروع الوطني لا يتحقق في الواقع الخارجي دفعة واحدة، وإنما هو بحاجة إلى مدى زمني، حتى يتحول هذا المشروع من القوة إلى الفعل، ومن النظرية إلى التطبيق. إلا أن الشيء المهم والذي نشعر بأهميته وضرورته على هذا الصعيد، هو وجود جدول زمني يحدد نقطة الانطلاق والبداية في مشروع التجديد والتطوير.
فلا يكفي اليوم أن يتم الحديث المجرد عن التجديد والتطوير، وإنما هناك حاجة ماسة إلى تحديد مدى زمني لعملية التجديد والتطوير. وبدون هذا الجدول الزمني وتحديد نقطة الانطلاق، سيتم التعامل مع شعارات التجديد والتطوير كمحاولة لكسب الوقت وتمييع القضية.
ولا ريب أن تأجيل قضية تجديد المشروع الوطني سيفاقم من المشكلات والتحديات، وسيدخل المجتمع في أتون مرحلة وظروف صعبة وشائكة على مختلف المستويات.
وإن تجديد المشروع الوطني هو قبل كل شيء موقف جديد من المواطن. موقف يحول دون الاستمرار في تهميشه، فهو قادر على المشاركة في صياغة حاضره وبناء مستقبله، وهو الأنسب للتعبير عن حاجاته وطموحاته، لهذا فإن إعادة الاعتبار للمواطن على مختلف المستويات، هو حجر الزاوية في مشروع تجديد المشروع الوطني.
وعليه وعلى ضوء تطورات المنطقة المتسارعة وأحداثها الخطيرة، نحن بحاجة اليوم في كل دول المنطقة إلى تجديد مشروعنا الوطني وتعزيز وحدتنا الداخلية، من أجل استيعاب تطورات الساحة ومجابهة الأحداث التي تعصف بالمنطقة وتقودها إلى مناطق ومجالات مجهولة.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن قوة الدول وعزتها، تقاس بمدى تمثيلها لمواطنيها. فإذا كانت دولة المواطنين جميعا، فإنها ستمتلك كل أسباب القوة والمنعة والعزة. أما إذا مارست الإقصاء والنبذ لبعض مواطنيها، فإنها بذات القدر ستخسر من قوتها ومنعتها. لذلك فإننا نتطلع أن تكون الدولة في الخليج دولة للجميع، في الحقوق والواجبات، والمسؤوليات والخدمات.
وحده الوطن المنفتح والمتفاعل مع خصوصيات مواطنيه، القادر على تأسيس وحدة وطنية صلبة ومتينة. فالوحدة لا تبنى عبر دحر الخصوصيات وخنق التنوعات، وإنما عبر خلق المناخ السياسي والقانوني لكل الخصوصيات والتنوعات الموجودة في المجتمع الخليجي، لكي تمارس دورها ووظيفتها في بناء وحدة الوطن وتعزيز لحمته الداخلية. فالعلاقة جد عميقة وصميمية بين مفهوم الوحدة وبين احترام الخصوصيات والتنوعات وتهيئة المناخ السياسي والاجتماعي لمشاركتها في البناء والعمران.
1. حين الحديث عن طبيعة العلاقة بين مختلف المكونات المذهبية في الخليج، لا يمكن نكران الدور الذي تمارسه مؤسسة الدولة. إذ أن بعض الظواهر السيئة التي تكتنف العلاقة بين هذه التعبيرات، تعود إلى طبيعة الدولة وخياراتها السياسية والثقافية والاجتماعية. يعود إلى طبيعة وبنية الدولة الخليجية المعاصرة. ويبدو لي أن إدارة التنوع على نحو إيجابي وحضاري، يتطلب في الدرجة الأولى العمل على تأسيس الدولة في المجال الخليجي على أسس المواطنة وأنها مؤسسة الجميع وليست مؤسسة مذهبية أو عرقية أو قبلية.
فالتهميش أو سوء العلاقة بين مكونات المجتمع الخليجي لا يعكس بالدرجة الأولى أزمة دينية في المجال الخليجي، بل يعكس بالدرجة الأولى أزمة سياسية تتجسد في المقام الأول في بنية الدولة الخليجية المنغلقة وذات البناء العصبوي الضيق. فالسلطة بكل أجهزتها الردعية، هي التي تتعامل مع حقائق التنوع في المجال الخليجي. ولا خروج من هذا النسق السيء في التعامل مع حالات التعدد والتنوع إلا ببناء الدولة الجامعة والحاضنة لكل التنوعات والمستوعبة بنظامها السياسي المرن إلى كل التعدديات.
2. في دور البيئة الخارجية في إثارة النزاعات الطائفية:
أود هنا أن أوضح حقيقة أساسية مفادها: إننا نفرق بين مفهوم الانتماء بكل دوائره ومستوياته، فانتماءات الإنسان الفرد والجماعة في غالب الأحيان، لا كسب للإنسان فيها. بمعنى أن ولادة الإنسان في أي بيئة، هي التي تحدد انتماءه الديني أو المذهبي.
فهي انتماءات تاريخية توارثها الناس، دون إعمال العقل أو ممارسة النقد تجاه مسلمات ذلك الانتماء. وفي المقابل هناك مفهوم الولاء وهو مفهوم ديني - سياسي، في غالب الأحيان الإنسان الفرد والجماعة بوعي وقصد وإدراك يختارون من يوالون ومن يبغضون.
فالانتماءات المذهبية أو الدينية، لا تتحول إلى بيئة إلى الامتداد المتجاوز لحدود الأوطان، إلا إذا كانت البيئة السياسية والاجتماعية طاردة ونابذة لتلك الانتماءات. فالشيعة في الخليج ليسوا امتدادا سياسيا لإيران، وإنما هم في غالبيتهم ومن خلال نخبهم الدينية والسياسية جزء أساسي من أوطانهم.
وعلاقتهم بإيران، لا تتعدى العلاقة الدينية - الثقافية. ووجود محاولات لنقل هذه العلاقة إلى موقع التبعية السياسية، يحمل الجميع في الخليج، الدول والمجتمعات، مسؤولية العمل لبلورة مشروع وطني متكامل يعمق خيار الاندماج الوطني، ويسد الثغرات، ويجسر العلاقة بين مختلف المكونات والتعبيرات.
3. في سياق الآليات المطروحة لاحتواء النزاعات الطائفية، أود التأكيد على الخيار التالي: بناء الدولة المدنية، التي تجسد إرادة المواطنين جميعا، ولا تميز بين المواطنين لدواع ومبررات ليست قانونية وإنسانية.
فهي دولة جامعة وحاضنة لكل المواطنين، ومحايدة تجاه عقائدهم وانتماءاتهم التاريخية.
والعلاقة جد وطيدة بين مفهومي المواطنة والدولة المدنية، إذ كل مفهوم يستند إلى الآخر لاستمراره وتجذره في الفضاء الاجتماعي.
وعليه فإننا نرى أن أحد الخيارات الحيوية المطروحة اليوم في الواقع الخليجي لاحتواء نزاعاته الطائفية والمذهبية، هو العمل على توفير العناصر التالية:
• المواطنة التي تمارس دورها في الشأن العام بدون خوف أو تردد. وتحصل على حقوقها بصرف النظر عن دينها أو مذهبها أو عرقيتها.
• مؤسسات المجتمع المدني، التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وتبلور كفاءاته، وتساهم في علاج مشكلاته وأزماته.
• الدولة المدنية الملتحمة في خياراتها الاستراتيجية مع خيارات مجتمعها، والساعية نحو إزالة كل رواسب الدولة التسلطية من واقعها ومؤسساتها وهياكلها المختلفة.
ووحده الإصلاح السياسي الحقيقي، هو بوابة تحقيق هذه العناصر، واحتواء موجبات وأسباب التوتر الطائفي في المجال الخليجي.
4. التنوع الطائفي والعلاقة مع الخارج:
لعل السؤال الجوهري في هذا السياق، الذي يبحث عن إجابات عميقة هو: كيف ينبغي أن تكون علاقة الأطر الأثنية والقبلية والمذهبية والدينية مع امتداداتها في الخارج؟
السلطات السياسية، ومنذ الصراع العثماني - الصفوي، نظرت إلى هذا الامتداد بريبة وشك متواصلين، واعتبرت الوجودات المذهبية والأثنية، ما هي إلا طابور خامس لذلك الوجود المذهبي أو الإثني الكبير. وأصبح هذا الوجود يدفع ضريبة هذا الفهم عبر التاريخ.
وإننا نرى أنه ينبغي أن ينظر إلى هذه المسألة، ليس من زاوية دينية أو مذهبية محضة، وإنما من زاوية سياسية - اجتماعية.
بمعنى أن الإنسان الفرد والجماعة، حينما تلبى مطالبه النوعية، ويندمج وطنيا واجتماعيا، وتزال كل عوامل التفتيت والتشظي الاجتماعية والسياسية والثقافية، فإنه سيبذل كل غال ونفيس في سبيل الدفاع عن هذا الوجود والواقع.
فالمزيد من الانفتاح الوطني والاستيعاب الاجتماعي والسياسي، هو الذي يحول على الصعيد العملي دون علاقة غير سوية بين الوجودات المذهبية وامتداداتها الخارجية.
والأمن والسلم الذي يعيشه الإنسان الفرد أو الجماعة، هو الذي يحدد طبيعة علاقة هذا الإنسان بالخارج وامتداده الإثني أو المذهبي. أي أن الإنسان حينما يفقد أمنه وسلمه المجتمعي في وطنه، فإنه سيبحث عن علاقة مفتوحة مع الخارج، توفر له الأمن والسلم المفقودين. أما إذا تحقق أمن الإنسان وسلمه، فإن علاقته مع الخارج المذهبي أو الإثني، ستكون علاقة انفتاح وتفاعل، لا علاقة تبعية وخضوع.
وإن خطاب هذه الوجودات يتصاعد في الالتزام بالقضايا الوطنية، كلما تحسنت علاقة السلطة السياسية بهذه الوجودات.
5. لا ننكر إن لبعض هذه التوترات والمآزق الطائفية في المنطقة العربية بواعثه الاقتصادية والتنموية. فحينما تغيب مشروعات التنمية المتوازنة، وتتضاءل المشروعات الخدمية الضرورية، تلجأ المجتمعات إلى انتماءاتها التقليدية. ويكون هذا الإطار التقليدي هو العنوان الخارجي الذي تعبر فيه هذه المجموعة البشرية أو تلك عن ظلامتها الاقتصادية أو التنموية أو الخدمية. فعدم التوازن في التنمية وتوزيع الموارد وفرص العمل، كلها عوامل وحواضن تثير الكثير من التوترات.
ولاعتبارات ثقافية واجتماعية، يتم التعبير عن هذا الخلل في التنمية وتوزيع الموارد وفرص العمل، بعناوين دينية أو مذهبية أو ثقافية.
وعليه فإن المعالجات الحقيقية للمشكلة الطائفية، لا تتجسد في العوامل الثقافية «مع أهمية هذه العوامل في استقرار المجتمعات المتعددة»، وإنما في الإصلاحات السياسية والدستورية والاقتصادية، التي تقر بتوزيع عادل لمشروعات التنمية والموارد العامة.
فالتوترات الطائفية بين الشيعة والسنة اليوم، ليس بفعل الخلافات العقدية أو الفقهية أو التاريخية، وإنما بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.
فالحرب الأهلية في لبنان، والتي وصفت بأنها شكل من أشكال الحروب الطائفية، لم تتوقف إلا بإعادة صياغة النظام السياسي وتوزيع مصادر القوة بين الطوائف المختلفة. والأمر نفسه ينطبق على المسألة العراقية اليوم. فالصراع القائم اليوم في العراق، لا يتطرق إلى النقاشات الدينية، وإنما حول التصورات السياسية لإدارة العراق السياسي والاقتصادي والثقافي. والهدوء السياسي والأمني اليوم في العراق، هو وليد التفاهمات السياسية، وليس التوافقات المذهبية.
فالاختلاف في الانتماء المذهبي، لا يثير وجع الناس، وإنما الذي يثيره هو حرمانهم من العدالة والحقوق العامة.
وانفجار الهويات الدينية والمذهبية والأثنية، الذي بدأت ملامحه تلوح بالأفق بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، حيث يقدر عدد المجموعات الأثنية التي عبرت عن نفسها سياسيا بما يزيد عن «3000» في مختلف أنحاء العالم، مقارنة بنحو «900» مجموعة في أواخر سبعينات القرن العشرين.
ويكمن تفسير ذلك في اكتشاف الذات والمطالبة بالمساواة والذي اتخذ في أحد وجوهه صورة التركيز على الذات ومحاولة إبراز الحدود الفاصلة بينها وبين الآخر.
وجماع القول: إن جذور التوتر والتنازع الطائفي، لا تكمن في التباينات العقدية أو الفقهية، وإنما في كون الجماعة الطائفية أو المذهبية، تعامل في وطنها على نحو مختلف عن بقية المواطنين. فهم لا يعاملون بوصفهم مواطنين اعتياديين، بل بوصفهم أعضاء في أقلية مصنفة دينيا وسياسيا في موضع أدنى من بقية فئات المجتمع. فالمشكلة تكمن في التمييز الطائفي، لا التمايز المذهبي.
وعلاج هذه المسألة، يكمن في قيم المساواة والعدالة، ليس بوصفها عناوين أخلاقية فحسب، وإنما حقائق سياسية وقانونية واقتصادية وتنموية، تصون هذا الحق الإنساني على قاعدة المواطنة الواحدة والمتساوية في الحقوق والواجبات.
6. ولاية الفقيه والدولة الوطنية:
في سياق السجال الإعلامي والمذهبي في المنطقة، يتم دائما استحضار نظام ولاية الفقيه كتحد يحول دون انسجام أبناء الطائفة الشيعية مع مجتمعاتهم. وأود في هذه النقطة الإضاءة على هذه المسألة من خلال النقاط التالية:
• إن الوحدات الاجتماعية والسياسية والوطنية القائمة اليوم، في أصقاع الدنيا ليس بسبب التجانس التام بين مكونات هذه الوحدات. فهي قائمة على التعدد واحترامه. والطريقة التي تعلمنا إياها التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق النظام الإداري السياسي المتوازن والمرن.
• هناك مقاربتان لبحث مسألة ولاية الفقيه والدولة الوطنية الحديثة. المقاربة الفقهية وهي تعني أن ولاية الفقيه من العناوين والموضوعات التي يبحثها الفقهاء الشيعة في كتبهم وأبحاثهم العلمية. وهي على هذا الصعيد كأي مسألة فقهية أخرى. والمقاربة السياسية ويمكن الحديث عنها من زاوية محددة وهي هل للفقيه الذي يحكم في إيران ولاية فقهية وسياسية على غير الإيرانيين؟ والجواب بطبيعة الحال لا. وأود هنا أن أذكر مجموعة من الأفكار التي توضح هذه الإجابة المختصرة.
إن الأوطان حقيقة قانونية ودستورية وسياسية، ونحن نحترم هذه الحقيقة ونرى أن العمل الذي يضمن مصالحنا هو المزيد من الاندماج في الاجتماع الوطني. و”التقليد لأي مرجع ليس ارتباطا حتميا نهائيا، فإذا ما تبين للمقلِد - بكسر اللام - اختلال شروط التقليد بفقد العدالة مثلا، أو بروز من هو أعلم، يجب عليه العدول عن ذلك المرجع وتقليد غيره. كما أن التقليد لا يكون في القضايا العقدية، ولا الموضوعات الخارجية، فالمقِلد غير ملزم بآراء مرجعه العقدية والسياسية“.
والشيخ حسن الصفار كأحد أبرز الزعماء الشيعة في المملكة يعلنها بصراحة ”إني أرفض تدخل أي مرجع في الشؤون السياسية الداخلية لبلادنا، فنحن جزء من هذا الوطن وهذا الشعب، ولنا حكومة معنية بإدارة شؤوننا وأمورنا، ورعاية مصالحنا، ونسأل الله تعالى لها الرعاية والتسديد.. وليس من سيرة مراجعنا تدخلات كهذه، بل إنهم يؤكدون على أتباعهم ضرورة رعاية النظام والقانون في أي بلد يعيشون فيه، حتى في البلاد غير الإسلامية، حيث أفرد سماحة السيد السيستاني حفظه الله في الكتاب الصادر عن مكتبه تحت عنوان: «الفقه للمغتربين» فصلا كاملا حول التعامل مع القوانين النافذة في دول المهجر“.
أن الانتماء المذهبي أو الديني ليس بديلا عن الانتماء الوطني. فالانتماء الوطني يلبي حاجة عميقة لا يمكن الاستغناء عنها. ونحن هنا نفرق على الصعيدين الثقافي والسياسي بين مفهوم الانتماء ومفهوم الولاء. وأن الشيعة في الخليج غالبيتهم كما يبدو، لا يتطلعون إلى استنساخ التجربة الإيرانية في الحكم. وإنما هم مع الحكم المدني الذي يضمن حقوقهم ويفسح المجال لكل التعبيرات للمشاركة في الحكم وإدارة الشأن العام.
إننا نعتقد على الصعيد الفقهي هو أن الولاية للفقه وليس للفقيه بحد ذاته. بمعنى أن الاجتماع الوطني بحاجة إلى مرجعية يستمد منها أنظمته وقوانينه، ولا ريب أن الفقه هو الإطار المرجعي لذلك.
وعليه فإن علاقة الشيعة بمرجعياتهم الفقهية، لا تتعدى العلاقة الدينية والثقافية.
وإننا نرى أن وجود مشروع وطني متكامل يستهدف دمج الشيعة في أوطانهم، ويفسح المجال لهم لبناء مؤسساتهم الدينية سيقلل على الصعيد العملي من ارتباطاتهم الدينية مع الخارج.
أن التعددية بكل مستوياتها، حالة طبيعية في كل الأمم والمجتمعات. ونحن في مجتمعات الخليج لا نخرج عن هذا السياق، ففي مجتمعاتنا كل التنوع والتعدديات، ولا سبيل إلى نكرانها ومخاصمتها.
وإن عجزنا عن إيجاد صيغة عادلة وموضوعية لإدارة هذه الحقيقة، هو المسئول عن كل التوترات والأزمات التي تحدث بين الفينة والأخرى بين مكونات وتعبيرات المجتمعات الخليجية.
وإن التيارات الإسلامية في الخليج بكل تلاوينها وأطيافها، تتحمل مسئولية عظيمة في محاربة التعصب وجذور الغلو والوقوف بحزم ضد كل أشكال التمييز بين المواطنين وفي بناء مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات المذهبية وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك.
ووحدها المواطنة بكل حمولتها الدستورية ومضمونها القانوني والسياسي، هي جسر العبور للتحرر من كل العناوين الضيقة وبناء علاقة إيجابية وتواصلية بين كل التعبيرات والمكونات.