آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 9:27 م

ورحل سعيد

عبد الله الناصر

جدران البيوت صامتة، شوارع موحشة، لا شيء يتحرك غير نبضات قلبي التي خرجت من جسدي تسبقني لمنزله، بقيت واقفاً بين سيارتين، أنظر لعتبة منزله، كانت الدقائق الأصعب في حياتي الوقوف خلف دارك. خرجت صرخات الفقد العالية وأنين الوجع الحار من شقوق دارك؛ فتبددت كل أحلامي بأن يكون خبر وفاتك أكذوبة.

هممت بالرجوع لبيتي، شعرت بدوخة، وجدت جسدي قد هرم بالعمر، يمشي بثقل الأحزان، الشارع الذي كان يأخذني ركضًا إلى بيتكم طوال سنوات عمري، ها أنا ذا أسير به ببطء شديد، وخلال دقائق رحل بي إلى شريط ذكرياتي، استرجعت خمسا وثلاثين سنة مضت، شممت رائحة الطفولة. إلى حنان والدتك التي اعتبرتني توأمك، ربتني معك بفطرة الأمومة الطبيعية، الصحن الذي خصصته لي لتناول الطعام بالقرب منك، شكل داخلي معنى الحب الصادق، والجيرة الحقيقية جزءا من تربيتي كان تحت أقدامها.

الباب المفتوح الذي كانت سعادتي بداخله، كان يكفيني عن الدنيا، صوت والدتك وهي تناديك عند حضوري، وجوه أخواتك الباسمة، ليالي السهر معك، والضحكات التي تكونت داخل مطبخكم ونحن نعد الطعام معًا، كنت تقاسمني كل ما تملكه، كنا نسير مثل أخويين لا صديقين، معك كانت طفولتي التي لا يمكن نسيانها ومراهقتي التي مرت معك بعفويتها، وصفوف الدراسة التي سجلت قصص الشباب المشاغبة لنا، ومازال العمر برفقتك، حتى قرر القدر تفريقنا؛ فأغلق هذا الباب بوحشة موجعة من وراءه.

ثلاثة موتى تركوا القطيف مسودة في يوم واحد، وكنت أنت آخرهم الذي انكسر به ضلعي، بدأت أشعر أن قلبي ينزف، وأنا أرتب إجراءات مدفنك، بكيت فراق أحبة لكن دموعك يا سعيد لها حرارة أكبر. محبتي لك فوق مقدرتي على رحيلك، لم أكن مستعدا لفراقك.

أين أجد صديقا باتساع قلبك الذي حملني به؟

؛ ليجعل حياتي أكثر سعادة، سأفتقد الدنيا بك، صوتك الذي علا منبر أهل البيت فرحًا وحزنًا، لصداقتك النادرة، لمبادئك الإنسانية، لبيتك الذي أخجل المرور به، بذكريات وأشياء لا يفهمها إلا أنا وأنت، أحببتك حب أخ أجده كلما احتجت إليه، يدعمني، يشجعني، عطاء لا منتهي، أين أجد بعد من يعطيني نصف ما أعطيت؟ وهل بقى من العمر لذلك؟

القطيف التي كنت تمر منازلها تخدمهم بحب، ترعاهم بود، لم تمنعك وعكاتك الصحية أن تتوقف يومًا بعطائك، أسمع اليوم كلماتك في الفيديو التوعوي الأخير بالجمعية كان كوداع أخير منك لقريتك التي تحب، نصائحك لهم كانت الرسالة الأخيرة، كأنك تعلم أنك راحل، مشاريع خطت بنجاح بفضل جهودك، أين ستجد الأوجام مثلك؟

خالتي أم سعيد..

وهبك الله ابنا كان لاسمه نصيب في حياته، عاش سعيدا، ورحل سعيدا، رافقه بالرحيل سيد الشهداء واستقبلته الزهراء لتنير قبره صرخاته التي لهجت بحب أهل البيت. ابن بار أخذ دور الأب للجميع، يهتم بالكبار والصغار حتى أصبحت السعادة تجمعهم لحظة دخوله.. ما أجمل دخوله ببسمته!.. فكيف خرج ولن يعود؟

إن عيونك التي احمرت من البكاء لن تسره، وهو الذي كان ليبيع العمر مقابل دمعة منها، اعذريه بالرحيل المبكر فقد أكمل واجباته بهذه الدنيا، والله اشتاق قربه. هناك سيرفع مقامك فنعم الأم أنتِ، حان الوقت ليكمل باقي أخوته مشواره بالقيادة.

أبنائي وبناتي من صلب سعيد.....

أعلم أنكم تبحثون عن صوته، عن رائحة عطره المخبئة في خزائن ملابسه، التي حوت ملابسًا بسيطة، فلم يكن يبحث عن بذخ الدنيا كثيراً.

«زهراء وزينب» ستبحثان عن صور زفافكما التي زينت بوجوده بينكما، ستكون الأغلى من بين الصور لديكم.

«محمد، وعلي، وليلى، وسارة وحوراء» ستكبرون أبناء مميزين فخراً لوالدتكم التي هي أمانة أبيكم بينكم، ستجدون في يوم زفافكم روح أبيكم بينكم؛ فالمحبة تصل، لن يترككم دون حضوره فأنتم أغلى ماكان يملكه. وسترون الأوجام كلها بقربكم، فوالدكم لم يرحل إلا بعد أن رتب كل أموركم، رحل وهو يعلم أن كل قريته بالقرب منكم، كما كان بالقرب منا في كل المواقف والمناسبات.

أعلم أنك لن تقرأ كلامي يا سعيد، ورغم ذلك سأكتب؛ لأن المحبة ليست شكلاً واحداً، هذا ماعلمتني إياه.، لازلتُ لا أصدق رحيلك المفاجئ. رجل لم يغيره الموت، فقد بدوت مبتسما مؤمنا. كما أنت بثوبك الأبيض، سأبقى أتذكرك بشوقٍ وحب، أنت صديقي، الذي علمني معنى الرضا والقناعة.

في بيتك الجديد تستحق أن يمتلىء بهدايا كثيرة وأنت حددت بابا واحدًا لنا، كانت الفاتحة مفتاحه والصدقة داره والدعاء نوره.

الحمد لله أن وهبني الله عمرا جميلا برفقتك، لقد نصبت لنفسك بعملك وصدق عطائك ألا محدود نصبا تذكاريا في وسط الأوجام؛ سيخلد وجودك بيننا دائما،

رحيلك مؤلم لكننا جميعا سنتصبر بالصبر الذي رأيناه بك، الذي كنت تستلهمه من صبر أهل البيت.

نم قرير عين يا سعيد، جسدك رحل وبقت روحك ترفرف كطائر في سماء قريتنا.