آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:37 م

مع خليفة الميساوي في كتابه ”تداخل الأَلْسُن“

هل تساءلت عن أسباب إدخالنا بعض الكلمات والمصطلحات أو حتى الجمل الأجنبية في لغتنا الأم ولهجتنا المحلية حينما نتحدث أو نكتب إلى أبناء لغتنا ولهجتنا؟ ألم تسمع أحد أصدقائك يقول ويكرِّر كلمة «يَسْ»، وتعني «نعم» في العربية، عندما يحقق شيئا أو يشجع أحدا على تحقيق شيء ما كإحراز هدف في مرمى مثلا؟ ولم نخاطب مَن يعمل معنا من إخواننا الهنود أحيانا قائلين «جَلْدِي»، والتي تعني بسرعة في العربية، مثلاً مع أن ذلك الهنديّ يفهمها بالعربية؟ ثم لماذا استعمل إخواننا الهنود لغتنا العربية بتلك الطريقة الهندية فقالوا: «أنا في روح» بدلا من: «أنا رايح»؟ فهل اللغات تؤثر وتتأثر ببعضها عندما تتداخل؟ وفي أيّ المستويات يكون ذلك التداخل؟ وإلى حد يصل التأثير والتأثر بين اللغات؟ ثم أخيراً، ألم يعتريك الفضول عن سبب استخدامنا - نحن - اللغة العربية بطريقة الهنود عندما نتحدث إليهم؟ فأنت، ولاشك، قد رصدت نفسك مخاطبا عاملتك المنزلية الهندية قائلا: «أنا في رُوح» قاصداً «أنا رايح» أو «أنا في يِجي» بدلا من «أنا جاي» مثلا؟

مثل هذه التساؤلات وغيرها تناولها وناقشها خليفة الميساويّ في كتابه ”تداخل الألسن - دراسة المظاهر والقيود اللسانية“. فقد قام بدراسة وتحليل تأثير اللغة الفرنسية على اللهجة التونسية والتي نتجت عن عديد الأسباب، ولعل في مقدمتها الموقع الجغرافي والاستعمار الفرنسي. وإذا كان تأثير ذلك الجوار الجغرافيّ بين تونس وفرنسا كبيرا وممتدا، فإن تأثير الاستعمار الفرنسيّ لها والذي امتد قرابة75 عاما «1881 - 1956م» كان عميقا وكثيفا. والمؤلف وإن كان قد تحدّث عن تداخل اللغات بشكل عام، إلا أنه فصّل في الحديث عن التداخل العميق بين لغتين أو ما يصطلح عليه ب «الثنائية اللغوية». وقد اختار مدوَّنة ضم فيها تسجيلات صوتية لعيِّنة مكونة من120 شابا وشابة تتراوح أعمارهم ما بين 15 سنة و30 سنة. ثم درس تلك المدوَّنة دراسة علمية مستعينا بمنهاج أو مناهج علمية مخصصة للعلوم الإنسانية وكذلك حلَّلها كميًّا وكيفيًّا.

أيضا، تناول في كتابه أسباب ذلك التداخل اللغوي من اجتماعية وتعليمية وثقافية ونفسية. فالمؤلف توصل - على سبيل المثال - إلى أن التحول إلى اللغة الفرنسية يتواتر بين النساء بشدة لشعورهن بأنها تشبع رغبتهن في الحرية والتميز والمكانة والإقناع. وكذلك، فإنه رصد مجالات التداخل العلمية والتقنية والثقافية. وقد استنتج أن حضور الفرنسية في المجالات التقنية والصناعية أكثر منه في المجالات العلمية والثقافية على التوالي. ثم انتقل إلى المستويات التركيبية التي يقع فيها التداخل اللغويّ وتبيَّن له بأن مستوى «الفاعل» يقبل التداخل بصورة أقل من مستوى «المفعولية». وأعاد ذلك إلى ”القيود التركيبية التي تتحكم في بنية الجملة العربية، إذ اتضح بأن التداخل في تركيباتها يختلف بحسب الصنف النحوي والحيز الإعرابي“ ص146. ثم تحدث في القسم قبل الأخير من كتابه عن القيود اللسانية من نحوية ودلالية وبرغماتية التي تتحكم في مستويات التداخل. وأخيرا، ختم كتابه بالحديث عن الترجمة باعتبارها مجالا لاتصال وتداخل الألسن.

وقد حذر الميساويّ في كتابه من موت اللغة العربية وعنى بذلك انحصارها في مجالات ضيقة وأماكن محدودة، كالكتب والطقوس الدينية والمساجد والكنائس. وهو ما حدث فعلاً لبعض اللغات كاللاتينية والسريانية والإغريقية. وقد جاء ذلك التحذير نتيجة لبعض الدراسات والتقارير، كتقرير منظمة اليونسكو 2006م الذي تنبأ بموت عدة لغات من بينها العربية في القرن 21. ولإنقاذ العربية نادى المؤلف بضرورة التخطيط اللغوي والذي يعني ”البحث عن الوسائل الضرورية لتطبيق سياسة لغوية. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بوضع تلك الوسائل موضع التنفيذ أي ربطها بالقرار السياسي. فلابد من تعاضد اللسانيّ، المتخصص في اللسانيات، بالسياسيّ صاحب القرار من أجل إنجاز الخطة اللغوية كي تضمن اللغة بقاءها والدولة هويتها ووجودها“ ص49-50.

وفي ”الخاتمة العامة“ أشار إلى تعدد مواقف اللسانيين من قضية التداخل اللغوي وتأثير ذلك على اللغة الأم وعلى اللغة الجديدة المكتسبة وعملية اكتسابها. فبعض اللسانيين يرى بأن الثنائية اللسانية مصدر إثراء للرصيد اللغوي عند التلميذ والمتلقي بصفة عامة. في حين أن البعض الآخر يرى بأنها تشكِّل عائقا خطيرا أمام إتقان اللغة الأم. وكما يرى الميساويّ؛ فإن هذه ”القضية تبقى مطروحة على الدرس اللساني اليوم، فهي تمثل مشكلة أساسية، على اللسانيين أن يتقصوا البحث فيها“ ص232.

وإلى جانب أهمية القضية المعالَجة؛ فإن طريقة تناولها وهيئة ”إخراجها“ في كتابه، كما أرى، لا تقل أهمية عن القضية نفسها. فالمؤلف بدأ كتابه بمقدمة عامة وختمه بخاتمة عامة «خلاصة عامة» وفيما بينهما ضمنه خمسة أقسام «صلب البحث» بدأ كلا منها بمقدمة وختمه بخاتمة. وهو بذلك قد ضمن للقارئ الترابط العام بين أعضاء البحث والتسلسل المنطقي المؤدي إلى نتائج مرتبطة بمقدماتها بإحكام. فيقف القارئ على تحليلات دقيقة ونتائج علمية محكمة وواضحة. ولربما يجد القارئ غير المتخصص بعض الصعوبات في مطالب الكتاب وفي مصطلحاته رغم كل ما بذله المؤلف لتذليلها. ومثل تلك الصعوبات عادة ما يفرضها البحث أو التخصص العلمي والتي، في أغلب الأحيان، ليس للباحث نصيب كبير في التحكم في قواعده أوتيسير مطالبه.