الحمامة والوردة
مشطتُ شعرها الحريري. جدلتُ ضفائرها. ألبستها ثوبا ناصع البياض مطرزا بورود مذهبة. هي أصرت على ارتدائه لحفل تخرجها من الصف الأول الابتدائي. طلبتُ من أبيها أن يشتري لها دزينة من الورد الجوري الأحمر، مقصوصة الأشواك ومهذبة الأطراف، كل واحدة مغلفة ببلاستيك شفاف ومربوطة بشريط أبيض من الساتان الأبيض اللامع. فاحت رائحة الورد الجوري الجميلة وملأت أرجاء المنزل. وضعته داخل حقيبتها المدرسية لتهديه لمعلماتها.
احتضنتها بحنان غامر. قبلتها على رأسها. خاطبتها بفرح:
- هديل، حبيبتي! لقد كبرتِ! سوف تتخرجين اليوم.
- نعم، ماما! صرت أكبر من أختي فهي ما زالت في الروضة. اليوم أنا جدا سعيدة!
- وأنا أيضا! سعادتي لا توصف بنجاحكِ وتفوقكِ.
- ماما! المعلمات أخبرونا أننا سننشد أغاني جميلة، وسنأكل الكنافة والبقلاوة والكعك والحلوى وسنلعب بالبالونات. أنا سيعطوني شهادة وجائزة لتفوقي.
- أنا دائما فخورة بك! انظري لنفسك في المرآة! كم أنت جميلة! تشبهين الحمامة في لباسك الأبيض!
- ماما! لكن ما عندي جناح ولا ريش مثل الحمامة!
- ههه، لا داعي للريش والجناح لتطيري.
- صحيح!
- صحيح. عندما نكبر تصبح لدينا الكثير من الأحلام، وسعادتنا عندما نحقق أحلامنا تجعلنا نشعر بخفة فنطير في الهواء مثل الحَمَام.
- ماما! حلمت البارحة بحلم مخيف.
- أوه! صحيح! ماذا!
- حلمتُ أن حرامي صوته وشكله مخيف جدا دخل بيتنا من النافذة. ثم قام بسرقة المفتاح الحديدي الصدئ التي تعلقه جدتي حول عنقها. شعرت جدتي به فحاول أن يخنقها بيديه بقوة، وبعد أن اختنقت قام يطاردني لأني رأيته. صرخت مستغيثة طالبة النجدة لكن لم يسمعني أحد. بعدها استيقظت وأنا أبكي وأصيح: ماما! ماما! كنت خائفة جدا أن يمسك بي.
- حبيبتي! لا تخافي! لماذا لم تخبريني عندما أيقظتك في الصباح!
- نسيتُ، ماما!
- لا مشكلة! لا تخافي! لقد تعلمتِ سورة الفلق والناس سنقرؤهما معا كل ليلة قبل أن تنامي! وسأضع قرآن صغير تحت مخدتك.
ثم فاجأتني بسؤال لم تسأله من قبل:
- ماما! مَنْ سماني هديل؟
- جدك.
- هديل، اسم جميل. أليس كذلك؟
- نعم! لكن صديقاتي يضحكن على اسمي ويسخرن مني بسبب اسمي. يقولون أنتِ صوت الحمام، بق بق بق! وأنا أبكي عندما يستهزئن بي.
- انهن غيورات منكِ! لا تهتمي لكلامهن! هل هناك أجمل من الحمام!
- ماما! لماذا جدي أسماني هديل؟
- هو يحب الحَمَام جدا. كان في بيته الذي سرقوه منهم والذي تضع جدتك مفتاحه حول رقبتها الكثير الكثير من الحمام من كافة الأصناف والألوان والأحجام، في قفص كبير فوق السطح...
قاطعتني وعلامات الحزن بانت على وجهها الصغير:
- حرام يحبسون الحمام! كيف سيطير في قفص! سيصطدمون بالقضبان وينجرحون! حرام عليه!
- لا! جدك كان يترك الباب مفتوحا طوال الوقت. كان يربي الحمام. يضع في القفص الحب والماء، ويعتني ببيض الحمام حتى يفقس وينظف القفص من وقشور الحب وريش الحمام المتساقط ومخلفاتها. لكنه لا يغلق الباب أبدا!
- كم حمامة كانت لديه؟
- لا أدري كم. كثير كثير! لم أستطع أن أعدهم لأنهم يتحركون باستمرار منذ طلوع الفجر. يروحون ويجيئون. وفي الليل عندما ينامون لا أستطيع عدهم بسبب الظلام الدامس.
- ما ألوانها؟ هل كلها بيضاء؟
- قليل منها بيضاء، والباقي رماديه أو ذات لونين أبيض ورمادي. قبل أن يسرقوا منزلنا جاءته هدية حمامة سوداء. شك أنها غراب لكنها كانت حمامة مهجنة نادرة وغالية الثمن. كان أبي يقضي معظم وقته مع الحمام أكثر من الوقت الذي يقضيه معنا أبناؤه وبناته وجدتكِ.
- أنا كذلك أحب الحَمام. إذا أعادوا لجدي وجدتي بيتهم المسروق سأسكن معهم. سأربي الحمام مثل جدي. هل تسمحين لي؟
- نعم! نعم! أكيد!
انتابني ألم حاد في قلبي. أدرت وجهي لئلا ترى عينيي اللتين سالت منهما أنهار مالحة أغرقت خديّ وعنقي. قلت في نفسي: كم هي بريئة! تشاغلت بسقي أصيص الورود الذي على الطاولة.
ثم قلت لها:
- هديل! صرتِ مثل الكبار. تحلمين وأنت مستيقظة!
- ههه. ضحكنا معا.
قبل أن نخرج من الدار. قالت: ماما، أغمضي عينيك وافتحي يديك. أغمضتُ عينيّ برهة وفتحتُ يديّ. ثم قالت وهي تضحك: ماما! خلاص! افتحي عينيك. فتحتهما فإذا بقرنفلة جميلة حمراء تستلقي بين يدي. ابتسمتُ واحتضنتها. قلت لها: لكن هذه الورود لمعلماتكِ! أنا يمكنك أن تهديني وردة في أي وقت. أجابت: ماما! أحبكِ. أنتِ معلمتي! أول من علمني كل شيء في حياتي! تأثرتُ وغصصتُ بدموعي. براءتها وطيبتها تجعلها كملاك، تجذب كل من يعرفها. شكرتها من أعماقي واستعجلتها لئلا نتأخر.
علقتُ حقيبتها المدرسية على ظهرها. أمسكتُ بيدها لنذهب للمدرسة لحضور حفل التخرج.
كانت مثل الحمامة تكاد تطير من الفرح مبتهجة بحفل تخرجها. طوال الطريق كانت تردد أنشودة التخرج لصفها بطريقة رتيبة وبلهجة طفولية، فعندما لا تجيد نطق بعض الحروف تبتلعها وتواصل الغناء إلى أن ينقطع نفسها ثم تعاود الكرة من جديد: بلاد العرب أوطاني من الشّامِ لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ، فلا حد يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا، لسان الضاد يجمعنا بغسَّانٍ وعدنان!
بعد دقائق، حذرتُها بقلق: هديل، سنصل للحاجز الآن! انتبهي جيدا يا ابنتي!
قالت: ماما، أنا خائفة! شكلهم مخيف! يشبهون اللص الذي رأيته في المنام.
هدأتها: لا تخافي! اسكتي، لا تتكلمي معهم! لا تنظري لأحد منهم! فقط افعلي ما أقوله لك وما يطلبوه منكِ! إذا طلبوا تفتيشك أو رفع يديك للأعلى فوق رأسك افعلي ذلك! أمشي بهدوء، لا تركضي ولا تتلفتي يمنة أو يسرى أو للخلف!
وصلنا الحاجز، انتظرنا طويلا. قبلنا كان يوجد صف طويل من الأطفال بعضهم بمفردهم وبعضهم برفقة آبائهم أو امهاتهم. يعبرون البوابة واحدا واحدا. يفتشون بعضهم بدقة. كلاب بوليسية ضخمة مخيفة تلهث وتنبح بجوارنا جعلت هديل تصاب بالهلع وتختبئ خلفي. ثم تقدمتني هديل بخطوات عندما رأت بعض زميلاتها فبرقت ابتسامتها وتألقت عيناها بفرح.
أحد الجنديات الواقفات على الحاجز ابتسمت أيضا لابنتي. كانت منذ فترة لأخرى عندما نشاهدها عند الحاجز تبتسم لطفلتي الصغيرة عندما نمر بينما أنا يتجهم وجهي عندما ألمح ملامحها الجامدة وابتسامتها الأفعوانية. قامت هديل بِمَد يدها لحقيبتها قائلة: سأعطيها وردة. صرختُ وقلتُ لها: لا! لا! لا! لفت انتباههم حركة حمامة المفاجأة عندما توقفت وانزلت حقيبتها من على ظهرها لتفتحها. وجهوا سريعا بنادقهم لها. سمعت دويّ الرصاص من كل مكان ينهال على بدنها الصغير. سقطت على الأرض مضرجة بدمائها التي سالت حتى وصلت لقدميي. تناثرت أشلائها وأشلاء الحقيبة واختلط لحمها المتفتت ودمائها بالدفاتر والاقلام وبتلات الورد الحمراء. غدا ثوبها الأبيض أحمرا قانيا. انفطر قلبي لشظايا من شدة الألم. تذكرتُ الغلام القاسم بن الحسن الذي سمعتُ عنه في معركة كربلاء والذي مزقوا براءته بسيوفهم الشرسة ثم مر في ذهني محمد الدرة مع أبيه والرصاص ينخر جسده. من هول الصدمة تحجرت دموعي. شعرت بالشلل في كل خلية من خلايا جسدي. فقدتُ القدرة على الصراخ. سقطتُ مغمىً علي. منذ استيقظت اتشحت بالسواد. لم أتكلم إلا مع الحمام الذي صرت أربيه فوق سطح المنزل.