الحياة مغامرة
كان منزوياً في إحدى زوايا ذلك القفص الكبير الذي امتلأ بالأفاعي والثعابين، وكانت عيناه تحدقان فيها وترصد تحركاتها وسلوكها بشكل دقيق ويداه المرتجفتان تمسكان بالورقة والقلم. لقد كانت ملاحظة ودراسة سلوك الأفاعي والثعابين جزءا من أطروحته لدرجة الماجستير والتي كانت عن السلوك العدائي عند الأفاعي والثعابين. في الحين الذي أذهلتني جسارة هذه المغامرة وصاحبها، أحزنني مَن اكتفى بمراقبة صاحب تلك التجربة والاستماع إلى النتائج التي توصل إليها. فإذا كان صاحب تلك التجربة قد امتلأ بالجسارة على خوض التجارب الجديدة، فإن الكثير منا ركن إلى الدعة والراحة واكتفى بمشاهدة ما يقوم به غيره. وربما لن تختلف معي حينما أعزو الكثير من الاكتشافات والفتوحات العلمية إلى تلك الروح التي امتلأت بحب المغامرة ومعرفة الجديد واكتشاف المجهول. وبدون مثل تلك المغامرات وتلك التضحيات لن تظفر بمعارف الجديدة أبداً، لأنه ”لابد دون الشّهْد من إبر النحل“.
وحين تتأمل في تاريخ الأمم؛ فإنك ستجد أن المتقدمة والقوية منها تكون سابقة ومتقدمة على غيرها في مختلف المجالات وليس في مجال واحد. فتجدها، مثلا، متقدمة في العلم والفن والرياضة والسياحة والصحافة وغير ذلك من الميادين المتنوعة. ولاشك أن قسما كبيرا من الأسباب يعود في ذلك إلى ما امتلأت به نفوس أبناء تلك الأمم من حب المغامرة والتجربة التي غذتها وأذكتها مجتمعات تلك الأمم بشتى الطرق. ففي الوقت الذي يخاف فيه الوالدان على ابنهما أن يصاب بسوء جراء خوض غمار التجارب الجديدة عند بعض الأمم؛ فإن الأبوين في تلك الأمم يدفعان بأبنائهم ويشجعانهم على الإقدام على مثل تلك الأمور.
ولعلك تدرك جيدا بأن تاريخنا وتراثنا قد حفل بمثل تلك المغامرات التي جعلتنا في ذلك الوقت في مصاف الأمم المتقدمة إن لم نكن في مقدمتها جميعا. وقد تنوعت تلك المغامرات تنوعا كبيرا. فإلى جانب رحلات ابن بطوطة وابن جبير الواقعية الملموسة تجد المغامرات الخيالية الفلسفية التأملية عن الآخرة التي أودعها المعريّ كتابه ”رسالة الغفران“. وإلى جانب مغامرات سيبويه اللغوية المتواصلة وخوفه من الموت و”في نفسه شيء من حتّى“، تقف أمامك مغامرات عباس بن فرناس الذي حاول اقتحام الفضاء والتحليق فيه.
عندما تقرأ مثل تلك المغامرات مما في تراثنا، ينتابك شك عظيم في أن حاضرنا هو امتداد حقيقي لكل ذلك التاريخ أو للجانب المشرق منه على الأصح. فإذا كان ماضينا قد أشرق في بعض جوانبه بسبب تلك المغامرات والتجارب العلمية؛ فإن حاضرنا في بحر من الظلمات مكلل بليال عاصفة حالكة السواد. وللأسف الشديد، فإن الروح الخاملة الناكصة الكسولة شملت جميع أطياف مجتمعنا الحالي. ف ”كتّابنا على رصيف الفكر عاطلون“، وأكاديميونا عن أبحاثهم منشغلون، وتجّارنا وصنّاعنا عن تجارتهم ومصانعهم لاهون فكلهم ”يحيون في إجازةٍ وخارج التاريخ يسكنون“. ولكي نعود من جديد، فإنه ينبغي لنا أن نقتحم الصعاب ونطلق العنان للتفكير والخيال في كل شيء. فنفكر في اللامفكر فيه ونتحدث في اللامتحدث عنه ونتخيل في اللامتخيل فيه غير عابئين بقيود وسدود المجتمع ما دمنا لا نتجاوز الخطوط العامة للإنسانية. فما دامت مغامراتنا في الخير وفي الشرف؛ فالجدير بنا أن ”لا نقنع بما دون النجوم“.
ومهما يكن من الأمر، فإن الكل منا مدعو للمغامرة في هذه الحياة بحسب طاقته وقدرته وضوابطه ومرجعياته وحدوده. فأنت كإنسان لا تستطيع التفكير بعقل حيوان وأنت كعاقل لا تحسن التفكير بعقل مجنون وأنت كمخلوق لا تتمكن بحال أن تفكر كخالق، وهكذا.
وفي هذا السياق، يتوجب على مسؤولي التعليم بمستوياته المختلفة في دولنا العربية أن يجعلوا إشعال روح المغامرة في الطلاب نصب أعينهم حينما يضعون المناهج والبرامج التعليمية. فيكون الطالب بذلك جاهزا لخوض غمار هذه الحياة واكتشاف ما فيها بعد أن تشبّع بتلك البرامج التي ولّدت أو شحذت روح المغامرة فيه لتكون حياته كلها مغامرة.