خرجت من بيتي فلم أجدني
نحن في هذا العالم الجامد في ذاته المتحرك بقوة خالقه في سباق سائرون ومسافرون، أدركنا أم غفلنا علمنا أم تعلمنا شئنا أم أبينا. قد نبدو للناظرين أننا نمشي على قدمين ونتحرك على الأفق بشكل عمودي، ولكن في الواقع نحن نسبح في غمرات هذا الكون ونطوف بين أركان القدرة الفاعلية، ونتوهم أن لنا قدرة فإذا ارتفعت موجتنا صعدنا وإن طال الصعود فلا بدَّ من هبوط. فالطموح ليس القمة لأننا صاعدون بقدرة الدفع الخارجي للذاتي.
هذا البحر الذي فيه نسبح ونغوص لنا فيه جولات، فأمواجه تتقاذف البائس، وأما السباح الماهر فتصارعه حتى تكن الغلبة للبحر. فإن شئت النجاة فلا تكن فيه بل كن عليه. هذا ما قاله جدي قبل أن يبتلعه الحوت وما سمعته من شيخي قبل أن يطبق عليه التابوت فهذه يا بني سيرة الأمم فبأيها شئت خذ العبر، ولهذا ابتعثني أبي قبل الفوت. طلبت علماً نافعاً ينير دربي من الظلمات، فأخرجت قلمي فأرسلت نظرةً في النجوم وصرخت فيها إني سقيم. فلم ترد جوابي وطأطأت رأسي وقلت لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. وبين تيه الفكر وحيرة الرأي إذ آنست ناراً فقلت لأهلي أمكثوا علي أن آخذ قبس من نور أو أجد على النار هدى.
طال عناقي بأمي وانحنيت أقبل يديها وفاضت عين أبي بالدمع وهنا إذ فارق الجمع وعاينت موقع البيت فلابد وإن طال الفراق لنا العود. فهذه جدتي تغزل وأخي يدرج وأختي ترسم وذاك جاري يلوح بالثغر الباسم.
وصلت إلى الوادي المقدس فقرأت بسم الله الرحمن الرحيم ربي أشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقه قولي.
لمحت عبداً صالحاً عليه سمات الوقار يشع النور من غرة جبيه ذكرتني بالله رؤيته. مضيت نحوه وأخذتني الرهبة منه وأنعقد لساني وهو الفصيح. أشار بيده أن تكلم أيها الشاب.
قلت: أيها العبد الصالح هل لي أن أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا؟
قال: بني إنك لن تطيق معي صبرا.
قلت: إذاً أيها العبد الصالح، قد أتيتك من عالم فيه الكل يسبح. وزاد عدد الغرقى. فماذا أفعل؟
قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ وأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ﴾
قلت: وكيف أصنع الفلك؟
قال: ﴿واصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ووَحْيِنا ولا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ قالها ومضى.
قلت: " ربي زدني علماً
علمت أن في هذا الوادي المقدس مدرسة لصنع السفن. وقفت على باب المدرسة ورأيت جنات تجري من تحتها الأنهار وهناك تقف شامخة تحفة السفن لو لم ترها عيني لقلت أنها أسطورة٬ كتب عليها ”إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة“ ومن ورائها يقف أسطول عظيم على كل سارية علم هدى.
تعلمت فيه صناعة السفن وعلمت من هم دوني. عدت فخوراً قاصداً بيتي وأهلي. فلم أجد لا الدار ولا أثر الجدار. أين أنا وأين هم أهلي؟ هل ضاع مني العنوان، أم تاه دربي؟ أليست هنا أمي؟ أما كانت هنا تصلي؟ بلى، هنا كانت دار الراكعات فأينهن الساجدات؟ هذا محراب والدي وقرآن يتلى.
فأرجعت البصر كرتين فرجع لي البصر خاسئاً وهو حسير وعلمت أني صعرت خدي ولم أخفض لهما جناح الذل. وعلمت أن مكانهما العرش فرفعت والدي عليه. فقرأ والدي وهو على ظهر السفينة إن إلى ربك الرجعى والمنتهى ”“ بسم الله مجراها ومرساها"
وهنا علمت أن العلم يعلو بالإنسان بل يصعد بالأمم، فأيما هي سادت بالعلم وعانقت السماء بطولها وزاحمت النجوم لتكون زاهرة في سماء التاريخ تشير لها أصابع الأجيال القادمة. فلعمري مدار بقاء الإنسان في العلو هو الخلق الرفيع لا العلم ذاته. عن النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله ”مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا وَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ وَ الْحُظْوَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ بَاباً إِلَّا ازْدَادَ فِي نَفْسِهِ عَظَمَةً وَ عَلَى النَّاسِ اسْتِطَالَةً وَ بِاللَّهِ اغْتِرَاراً وَ مِنَ الدِّينِ جَفَاءً فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ.“ بحار الأنوار ج2، ص 34