آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

الغدير.. الامتحان الأصعب

جئنا لهذه الدنيا بلا إرادةٍ منّا، ونغادرها أيضاً بلا إرادةٍ منّا، وفيها نعيش الامتحان تلو الامتحان، وهذه سنّة الله تعالى في الحياة، يقول سبحانه: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ”الملك، 2“.

وبحسب وعي الإنسان تكون الامتحانات في هذه الحياة، إلا أنه من حكمة الله تعالى وعدله أن يضع الإنسان أمام الامتحان الأصعب الذي يتوافق ومستوى وعيه، وحين يجتازه فقد فاز فوزاً عظيماً. وهذا الامتحان لا يتطلب عقلاً راجحاً، وإنما يتطلب قلباً سليماً، يقول تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ”الشعراء، 89“، فكم من صاحب عقلٍ لا يملك قلباً سليماً، أو قاده قلبه إلى جهنّم والعياذ بالله؛ ولذا فإن الإنسان المؤمن دائماً وأبداً يُكرر هذا الدعاء ليكون قلبه دائماً على العهد الذي يُريده الله سبحانه، يقول تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ”آل عمران، 8“.

والسؤال المهم: كيف يكون الغدير الامتحان الأصعب؟ وما علاقته بواقع كلِّ فردٍ منّا؟

آمن المسلمون برسول الله ﷺ ودخلوا في دين الله أفواجاً، وطالما كان الرسول الأعظم ﷺ بينهم فإنه وإن كان فيهم منافقون إلا أنهم لا يجرؤون على فعل شيءٍ يناهض دعوة النبي ﷺ، ومن جانب آخر فإن المسلمين الأوائل بشرٌ حالهم كبقية الناس لهم مصالح وأطماع دنيوية، كما

أنّ بعضهم يعيشون التبعية العمياء لأصحاب النفوذ والقوة، لكلّ ذلك فإن غياب رسول الله ﷺ ورحيله عن هذه الدنيا يُمثّل نقطة تحوّلٍ تاريخي في حياة الأمة، وهنا جاء الأمر الإلهي لرسول الله ﷺ بأن يضع الأمة في الامتحان الأصعب، ولذا كان البيان القرآني شديداً، مما

يؤكد أهميّة وخطورة الموقف، وأن هذا الامتحان يوازي تبليغ الرسالة من قبل الرسول الأكرم ﷺ، كما أنه يوازي حقيقة الامتثال لأمر الله تعالى من جهة المسلمين، فجاء الأمر الإلهي في يوم الغدير الأغر وفي موقفٍ عصيب لشدّة حرارة ذلك اليوم، وضمن حشدٍ عظيمٍ من المسلمين،

نزل الوحي المبارك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ”المائدة، 67“، وحين تمّ

الأمر ونفّذ النبي ﷺ ما أمر به الله تعالى، نزل الوحي بقوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ”المائدة، 3“، مما يعني أن هذا الأمر يُمثّل تمام الدين وتمام النعمة وبه يكمل الإسلام.

ولكن هل امتثل المسلمون لهذا الأمر الإلهي؟ نعم، لقد امثل الجميع للأمر الإلهي، طالما كان النبي ﷺ بينهم، ولكنهم تفرّقوا واختلفوا وتنازعوا حين غادر ﷺ الدنيا، ولسنا بصدد تقييم ما حصل فنتائج الامتحان الأصعب بيد المولى سبحانه وتعالى.

ما يهمنّا هو انعكاس هذا المبدأ الإلهي على واقعنا المعاش، فكيف تكون طبيعة الامتحان الأصعب الذي يفرضه المولى سبحانه وتعالى علينا؟

إن هذا الامتحان لا يُستثنى منه أحدٌ أبداً، فجميعنا معرّضون لهذا الامتحان الأصعب، ونتيجته تُحدّد مدى استفادتنا من العبادة والعلم والمعرفة والوعي ومن مختلف النِعم التي أنعم الله تعالى بها علينا. وقد نواجه هذا الامتحان أكثر من مرّة وذلك بفضلٍ من الله تعالى علينا فهو الرحيم بعباده، ولا يرضى لهم الكفر.

وكثيراً ما يكون الامتحان الأصعب في نهايات الأمور، وليس في بداياتها ولا أثنائها، ففي النهايات تُكتشف معادن الناس، ويُكتشف القلب السليم من القلب المريض، وبقدر سلامة قلبك تكون منزلتك ومقامك عند الله سبحانه وتعالى.

فحين تنتهي علاقة الشريك بشريكه في تجارةٍ ما، أو تنهي علاقة الزوجين مع بعضهما، أو يُنهي أحدهم عملاً وظيفياً، أو تنتهي مصلحةٌ ما بين أحدهم وآخر، أو يزول خطر أحدهم على الآخر، في كلّ هذه الأحوال والمواقف يتبين معدن الإنسان وسلامة قلبه، ليكون أمام امتحانٍ صعب جداً يكشف عن حقيقته التي قد يُخفيها في زمن وجود العلاقة أو المصلحة أو الخطر.

والامتحان الأصعب لا يكون إلا في مناطق الضعف عند الإنسان، ليكون كاشفاً عن مدى امتلاك الإنسان لزمام نفسه في المواقف التي تضغط فيها نفسه بالاتّجاه الخطأ، وهذا هو الامتحان الحقيقي والأصعب في حياة الإنسان.

فمن كان أسيراً للشهوة يكون امتحانه فيها، ومن كان أسيراً للمال يكون امتحانه فيه، ومن كان أسيراً للجاه والنفوذ يكون امتحانه فيه، ومن كان أسيراً للانتقام يكون امتحانه فيه، ومن كان أسيراً للمنصب يكون امتحانه فيه؛ وهكذا، فلا أحدٌ بمنأى عن هذا الامتحان الذي قد يأتيك

من حيث لا تدري. ولذا ينبغي علينا أن نكون يقظين واعين في سلوكنا وتعاملنا في حياتنا، وذلك لأن الامتحان الإلهي لا يكون إلا في المواطن التي تهفو إليها أنفسنا، وتدفعنا نحوها بشدّة، ولذا يقول أمير المؤمنين : «وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ». فهل نكون على قدر تحمل المسؤولية وننجح في تجاوز هذا الامتحان؟ فلا يغرنّك مظاهر الآخرين، كما لا يغرنّك نظرةَ الآخرين إليك، فالامتحان الأصعب قد لا ينكشف لمن هم حولك، لكنّه بكلِّ تأكيدٍ ماثلٌ أمامك.

ويكشف لنا أمير المؤمنين حقيقة الامتحان الأصعب بكلامٍ بليغ، كما يكشف لنا من الذي يسقط فيه، ومن ينجو، يقول : «قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّه ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ». فمن يعيش الغفلة في حياته، ولا ينتبه في مواطن الامتحان الأصعب، الذي به تنكشف حقيقته، فذلك هو الخسران المبين.

والأمة مقبلةٌ على امتحانٍ أصعب كثير الشبه بذلك الامتحان الذي عقده رسول الله ﷺ في يوم الغدير حين أعلن الولاية الكُبرى لأمير المؤمنين ، فإننا مقبلون على مثل ذلك اليوم حين تُشرق الأرض بنور مولانا صاحب العصر والزمان والذي سيعيش محنة جدّه المؤمنين في مواجهة من غرتهم الدنيا، وباعوا حظهم بالأرذل الأدنى، وعندها ينكشف الغطاء، ويكون الجميع على منصّة الامتحان الأصعب فمن كان قلبه سليماً فسيتجاوزه ويلتحق بركب النجاة.

اللهم اكشف هذه الغمة عن هذه الأمة بحضوره، وعجّل لنا ظهوره، إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، برحمتك يا أرحم الراحمين.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
أبو علي
[ صفوى ]: 9 / 8 / 2020م - 3:53 م
أحسنت أ . تركي وثبتناالله وإياكم على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام .