مقال: مواقع التواصُل: حُرية أم انفلات؟
مازالت العبارة الشهيرة للروائي المصري نجيب محفوظ التي تقول: ”لو ظل التخلف في مجتمعاتنا فسيأتي السياح ليتفرجوا علينا بدلاً من الآثار“ تُثبت صحتها يومًا بعد آخر مثل نبوءة صادقة، بل يبدو أن حالة التخلف تزداد سوءًا على الصعيدين: الأخلاقي والثقافي بصورة غريبة، وأغرب خطوطها أن المُتخلفين صاروا يعتبرون أنفسهم مُتطورين متقدمين، وهي الظاهرة التي يُمكن التأكد منها بمُتابعة أحاديث الناس ومناقشاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني.
بدأت تلك المواقع قبل سنوات بداية واعدة، حيث لا ترتفع إلا أصواتٌ تستحق أن تُسمع، ولا تُنشر إلا آراء وأخبار تستحق أن تُقرأ، ثم سُرعان ما تحولت إلى مداس للدائسين ومرتع للخائضين، أحداث هزيلة تنتشر انتشارًا يُدهش العاقل لتفاهتها، وأخبارٌ سخيفة تتحول إلى حلبة صراعٍ طاحنة بين مُعارضيها ومُعارضيهم! لا أحد يضع احتمالاً لكونه على خطأ مهما كان رأيه، ولا أحد يقيم وزنًا لاختلاف بيئته وثقافته واختلاف بيئات الآخرين وثقافاتهم، واختلط الحابل بالنابل إلى درجة صار فيها الوضيع يعتبر نفسه رائعًا مُبهرًا عظيمًا، ويرى في الشخص العظيم حقيرًا لا يستحق احترامه! أشخاص غير متعلمين لا يخجلون من انتقاد المُتعلمين، ومغمورين يُهاجمون مشهورين، وفاشلين يصبون جام حقدهم على الناجحين، ومُغيبين أوقاتهم خاوية يظنون أن ثرثرتهم العنيفة عن أي قضية يُصادفونها تصنع لهم قيمة ووزنًا!
هل انتهى زمن الرزانة والرصانة والذوق العام الذي كانت تُحافظ عليه قنوات التلفاز الرسمية والصحافة الورقية الراقية بعد أن صارت الكلمات مُغتصبة بين أيدي من هب ودب من الرعاع والمضطربين؟ هل هؤلاء الناس من ذوي الوعي المنخفض موجودون في كل العصور أم أن حالة التردي الأخلاقي والثقافي في عصرنا هي المسؤولة عن تضخم تلك الظاهرة؟
ثمة مقولة سورية طريفة كان يُكررها بطل الجزء الثالث من مسلسل ”الولادة من الخاصرة“ المعروف باسم ”أبو نيبال شيخ الوادي“ قائلاً: ”يلعن اللي ربط الكر وفلَّتك“، وتعني: ”اللعنة على من ربط الحِمار وتركك منفلتًا“ باعتبار هذا الشخص المُخاطب بمستوى القدرات العقلية للحمار أو أقل، وكثيرًا ما وجدت نفسي أُردد تلك المقولة سرًا وأنا أتابع بعض حالات الهبل والجنون على تلك المواقع، مُندهشة من انصياع عقول بعض الناس لها وانجرافهم معها! لكن يبدو أن أكثر البشر ”كلمة تجيبهم وكلمة توديهم“، ما أن ينطلق صفير البوق انطلقوا ورائه إلى الهاوية كالمسحورين.
لكل شيء نهاية، ولا شك أن نهاية تلك المواقع ستأتي ذات يوم لتزيحها وسائل أخرى عن عرشها وتحتله، وحتى ذلك الحين يبقى الإيمان، والأخلاق، وجذور التربية الصالحة، والثقافة العميقة، من أهم الأسلحة التي يواجه بها المُتلقي طوفان غسيل الدماغ بهذا المُحتوى القذر.