عاشوراء 2020 وتحدي الخطاب الحسيني
موسمٌ استثنائي نستقبله بعد أسابيع قليلةٍ، وحيث أن مجتمعنا يزخر بالولاء لأهل البيت ويُقدّس القضية الحسينية فإنه من المستحيل أن تمر عاشوراء مرور الكرام، ومن المستحيل أن يأتي هذا الموسم العظيم ولا يُحدث حراكاً اجتماعياً على مختلف الأصعدة.
وتأتي عاشوراء هذا الموسم وقد اجتاح هذا الوباء العالم بأسره، والذي فرض نمطاً من الحياة لم نشهده طيلة عشرات السنين الماضية، ورغم ذلك فإن موسم عاشوراء يفرض نفسه رغم كلّ الظروف.
وباعتبار أن الخطاب الحسيني هو الركيزة الأساسية في موسم عاشوراء، نريد أن نلامس التحدّي الذي يواجه هذا الخطاب في الموسم القادم، وأركّز هنا على ثلاث نقاطٍ:
في السنوات الماضية كان الخطاب يقتصر على حدود المجلس الحسيني الذي يرتاده الخطيب، وفي حدود الحضور المحدود، أما في هذا الموسم فالأمر مختلفٌ تماماً، فالخطاب في هذا العام سيُعرض للعالم أجمع بخلاف كلّ المواسم السابقة.
نعم هناك بعض الخطباء وبعض المجالس الحسينية تنشر سابقاً خطابها عبر الفضاء الإلكتروني، إلا أن ذلك لا يشمل جميع المجالس، كما لا يشمل جميع الخطباء، أما في هذا الموسم فإن جميع المجالس الحسينية ستكون عبر الفضاء الإلكتروني سواءً كانت تلك المجالس صغيرةً أم كبيرةً، لخطيبٍ ذي جمهورٍ واسعٍ أم جمهورٍ محدود، وذلك لأن الإجراءات الاحترازية التي يفرضها الظرف القائم من شأنها أن تقلّل نسبة الحضور في المآتم بشكلٍ كبير، وبالتالي سيكون حضور معظم الناس للمآتم الحسينية من خلال منازلهم وعبر الفضاء الإلكتروني، وهنا سيكون جميع الخطباء في ساحةٍ واحدةٍ، وضمن فرصٍ متكافئةٍ للانتشار العالمي.
والمأمول من خطبائنا الأعزاء أن يحتذوا بأصحاب الأئمة فيكونوا نماذج مشرقين على مستوى العالم.
فهذا أبّان بن تغلب وهو أحد تلامذة الإمامين الباقر والصادق ، وقد قال له الإمام الباقر : «اجلس في مسجد المدينة، وأفتِ الناس؛ فإنّي أُحبُّ أن يُرى في شيعتي مثلك». وقال له الإمام الصادق : «يا أبّان! ناظر أهل المدينة، فإنّي أُحبُّ أن يكون مثلك من رواتي ورجالي».
فليعرض كل خطيبٍ نفسه على أمثال هذه الروايات وما تقدّمه من نماذج مشرقة وليكن مصداقاً بارزاً لها، فإننا نُحبُّ أن نرى مثل تلك النماذج بين خطبائنا الأعزاء.
وهذا يُشكّل تحدٍ كبير، فحين يكون الجمهور على مستوى العالم، فإن الخطاب ينبغي أن يكون عالمياً أيضاً، ولذا على الخطباء الأعزاء أن يجدّوا ويجتهدوا فهذا ميدانهم بين أيديهم، وأتيحت لهم أكبر فرصةٍ لبثّ علوم أهل البيت للعالم أجمع، وعلى قدر هذا التحدّي ينبغي أن يكون الجهد.
يُمثّل الخطاب الحسيني مدرسةً دينيةً اجتماعيةً فكريّةً بامتياز، وفي مجتمعنا الغالي عشراتٌ بل مئاتٌ من المجالس الحسينية، وذلك فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، فقد تربّينا على تلك المجالس المباركة، ونسأل الله تعالى أن يُديم علينا هذه النعمة.
وهنا أشير إلى ملاحظةٍ في غاية الأهمية أرجو أن يتّسع لها صدر الخطباء الفضلاء، فكلّ ما أرجوه هو أن نرتقي بالخطاب الحسيني إلى مستوى التحدّي الذي يفرضه الموسم القادم.
إن أيَّ متابعٍ للخطاب الحسيني يُمكنه ملاحظة أن غالبية الخطباء يتناولن مجالاتٍ متعددةٍ في خطابهم الحسيني، دون أن يكون لهم مجالٌ يتخصصون فيه، فالخطيب هو مفسّرٌ للقرآن الحكيم، وهو باحثٌ في السيرة والتاريخ، وهو واعظٌ أخلاقي، وهو مصلحٌ اجتماعي، وهو مفكّرٌ إسلامي، فهل يُعقل أن يجمع الخطيب كلّ مجالات العلم والمعرفة؟
وهنا دعوةٌ من القلب إلى كلّ الخطباء الأعزاء بأن يتأملوا في ذواتهم، وكلٌ أعرف بنفسه، فأي مجالٍ من المجالات هو ميدانه فليُركز على ذلك المجال وليدع بقية المجالات لغيره من الخطباء وبذلك يتكامل الخطاب الحسيني، ونُصبح مجتمعاً راقياً.
فليكن لدينا خطيبٌ يتأمل ويتدبّر في القرآن الكريم، وخطيبٌ يطرح الآراء الفقهية، وآخر يبحث في المواضيع العقائدية، وآخر يتحدّث في السيرة والتاريخ، وآخر يُقدّم للناس المواعظ والعِبَر، وآخر يُعزّز القيم الأخلاقية، وآخر يُعالج القضايا الاجتماعية، وآخر يُناقش القضايا الفكرية والثقافية، وخطيبٌ يُذكّر الأمة بمصاب أهل البيت ، ونهضة الإمام الحسين وما جرى عليه وعلى أهل بيته وخاصّة أصحابه في يوم عاشوراء، فيُشجي العبرة، ويستدرّ الدمعة، فإن البكاء على الإمام الحسين لا يقلّ أهمّية من مختلف القضايا العلمية والمعرفية لما له من أثرٍ على النفوس، وما قيمة العلم والمعرفة إن لم تنعكس إيجاباً على نفس الإنسان، فتُهذّب سلوكه وتُزكّي نفسه.
وإذا تحقّق ذلك فإن الخطاب الحسيني سيُقدّم للمجتمع وللعالم نموذجاً رائداً متكاملاً تتنوّع فيه مجالات الخطابة، وتتميّز بالقوّة، لأنها صادرةٌ من خطيبٍ ركّز فكره وجهده في الميدان الذي هو مبدعٌ فيه ومتمكنٌ منه.
عندما يُبحر خطيبٌ في مجالٍ من المجالات باعتباره مهتمٌ بهذا المجال، ويكتفي بنقل آراء الآخرين، والتعريف بما قدّموه في ذات المجال والموضوع الذي يتناوله الخطيب في خطابه الحسيني، فإن ذلك لا يروي ظمأ المستمعين، ونحن نتطلع إلى أن يكون للخطيب إنتاجه الذاتي وإبداعه الفكري فيما يطرحه ويقدّمه.
وهنا أدعو الخطباء الفضلاء بأن يُصيغوا خطابهم الحسيني بطريقةٍ تتجاوز المألوف، فوسائل المعرفة اليوم واسعة، وأيُّ مهتمٍ بموضوعٍ ما يُمكنه أن يبحث عنه في الإنترنت ليجد آلاف الصفحات التي تتحدث عن ذات الموضوع، فيا ترى ما الجديد الذي سيقدّمه الخطيب في أي موضوعٍ يتناوله في خطابه؟
ومن هنا فإن على الخطيب أن يجتهد في تقديم رؤيته الذاتية ضمن الخطاب الذي يُقدمه للمستمعين، ولا يكتفي فقط بنقل ما قرأه هنا أو هناك، فهذا وإن كان ذا قيمةٍ كبيرةً إلا أنه يبقى دون التطلع الذي نتطلع إليه من الخطباء الفضلاء.
وأركز هنا على شريحةٍ من الخطباء الذين نعتزّ بهم، ونفخر بفكرهم، وهم يُمثّلون ثقلاً علمياً على مستوى العالم الشيعي، ولذا نتطلع أن يُقدّم هؤلاء الخطباء آراءهم الذاتية في كلِّ خطابٍ يطرحونه في هذا الموسم. فهم ولله الحمد طباء متألقون، إلا أننا في نفتقد في خطابهم إلى آرائهم الذاتية، فتجربتهم طويلة، وفكرهم متميّز، وأنا على يقينٍ أن لديهم آراؤهم الخاصة في كلّ ما يطرحونه ويقدّمونه، فلماذا لا يكون ذلك واضحاً ملموساً في خطابهم الحسيني؟ ولماذا يحرمون مجتمعهم من فكرهم نتاجهم الفكري الخاص.
ولذا نحن نطلع في هذا العام أن يُسجل الخطباء أفكارهم وآراءهم ضمن الخطاب الحسيني، فهم ليسوا أقلّ ممّن سجلوا نظرياتٍ في المجالات المتعددة، ولست أبالغ حين أقول أن لدينا من الخطباء مَن بإمكانهم أن يُقدّموا لنا رؤىً جديدة، بل ونظرياتٍ حديثة تتناسب والقيم التي يؤمن بها مجتمعنا وكذلك الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، وعليهم أن يكونوا بحجم هذه المسؤولية.
وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل موسم عاشوراء القادم أعظم موسمٍ يمرُّ علينا بما يحمله من فكرٍ ووعي ومن روحٍ تعانق السماء بحب سيد الشهداء ، وأسأله تعالى أن يُجلي هذه الغمّة عن هذه الأمة، ويُعجّل لنا في فرج مولانا صاحب العصر والزمان، والحمد لله ربّ العالمين.