لا تفرُّد إلا بالثقافة
يبدأ الانحطاط في واقع أي أمة عندما يبدأ استهتارها بقيمة وأهمية الثقافة، وإن كانت بعض الأصوات الناظرة إلى الماضي نظرة سطحية تزعم أن من أهم أسباب تقدم الغرب على الأمة العربية اهتمامه ب ”العلوم التطبيقية“ وتفضيلها على ”العلوم النظرية“ المُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة، زاعمين أن تلك العلوم النظرية لا قيمة لها ولا فائدة ولا جدوى في تقدم الأمم وارتقائها، فإن نظرة جادة فاحِصة إلى تاريخ الأمة العربية والإسلامية تجعلنا نكتشف أن من أهم أسباب الأمجاد التي حققتها خلال مراحل بريقها كان سببها الرئيسي اهتمامها بالثقافة، ورعايتها أولئك الذين تبدو عليهم سمات الولع بالمعرفة الشمولية، بل وحتى مشاهير الأمَّة الإسلامية في بعض العلوم النظرية مثل الشيخ الرئيس ”ابن سينا“، و”أبو بكر الرازي“، و”جابر بن حيان“، و”عُمر الخيّام“ وآخرون؛ كان من أهم أسباب لمعان نجومهم اهتماهم بالثقافة شعرًا وأدبًا ومنطقًا وفلسفة وموسيقى وعلم القرآن الكريم وصولاً إلى علم الروحانيات وخفاياه العجيبة، وعُرف عنهم نهمهم للقراءة في كُل مجال، وغرقهم في مكتبات أصحاب النفوذ ممن يسمحون لهم بالاغتراف من أنهار تلك الكنوز المعنوية التي لا تُقدّر بثمن، وهو على عكس ما نراه من أكثر مُتعلمي وخريجي الكُليَّات العملية للجامعات العربية في يومنا هذا، الذين ترى من بعضهم استخفافًا بالثقافة والمثقفين في أي مجالٍ غير مجال ”العلم العملي“ الذي ”حفظوا مناهجه“ عن ظهر قلبٍ كما يحفظ أي قُرصٍ كُمبيوتري مُدمج ما يُسجل عليه، لا كما تتعامل النفس الإنسانية الراقية مع المادة المعرفية مازجة بين المشاعر والثقافة النظرية العامة والمعرفة العملية وما يتبعها من خبرات عملية وخبراتٍ حياتية خاصة.
قد يكون من أبرز وأشهر عُلماء المُسلمين في العلوم العملية الشيخ الرئيس ”ابن سينا“، ورغم ارتباط اسم ”ابن سينا“ بعلم الطب باعتباره من أهم أطباء عصره والناجحين في مُعالجة أشهر امراء ذاك العصرِ وحُكامه؛ إلا أن ما يجهله غير الدارسين لسيرته الذاتية أن اهتمامه الأساسي بدأ بالثقافة؛ وتحديدًا الشغف بعلوم القرآن والأدب شعرًا ونثرًا، ثم المنطق والفلسفة، وأخيرًا التفت لعلم الطب من باب ”الاستزادة من المعرفة“، وعن هذا قال: ”وصارت أبواب العلوم تتفتح عليَّ، ثم رغبتُ في علم الطب، وصرتُ اقرأ الكتُب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من الأمور الصعبة، فلا جرَم أني برزتُ فيه في أقل مدة، وتعهدتُ المرضى، فانفتح عليَّ من أبواب المُعالجات من التجربة ما لا يوصف“.
ونحن هنا لا نجرؤ على أن نقول بأن علم الطب ليس علمًا صعبًا، بل هو فائق الصعوبة - لا سيّما على طُلابه - بسبب التعقيدات الدخيلة التي تم ربطها به ربطًا وثيقًا لتصعيبه عمدًا حفظًا لهيبته، لكن ما نود الإشارة إليه هو أن أعظم العُلماء الذين أخذ عنهم الغرب جانبًا كبيرًا من علومهم في زمنٍ مضى كانوا يهتمون أولاً بالثقافة الأدبية والفلسفية والفنية؛ ثم ينطلقون للتركيز على معرفة عملية دون التخلي عن استمرارية ولعهم بالاستزادة من الثقافة، وإذا عُدنا لابن سينا مثلاً؛ سنجده ألف كتبًا كثيرة خارج نطاق علم الطب، فمثلما له 43 كتابًا في العلوم الطبية؛ كان له 24 مؤلفًا في الفلسفة، و26 مؤلفًا في الطبيعيات، و31 مؤلفًا في الدين، و23 مؤلفًا في علم النفس، 15 مؤلفًا في الرياضيات، 22 مؤلفًا في المنطق، خمس مؤلفات في علوم تفسير القرآن، إضافة إلى عدة رسائل أدبية في الزهد والعشق والموسيقى وبعض القصص.
بالثقافة تقوى روح الإنسان على الصمود في مواجهة أزمات الواقع، ودون تلك الثقافة يتحول الإنسان إلى أقرب لـ ”الروبوت“ المُبرمج، تم ضبط برنامجه على ”النظام العملي“ الذي تلقاه، لكن يسهل الاستغناء عنه واستبداله بغيره في أي لحظة، لأنه يفتقر لأهم الصفات الإنسانية: التفرُّد.