مع شخصيات الفكر والأدب - المدربة نعيمة عبد الأمير آل حسين «2»
سأختزل تجربتي في هذه المرحلة بوضعها تحت عنوان:
اتسمت تلك الفترة أو تلك الحُقبة الزمنية ببساطة الحياة وبراءتها، حيث لم يكن في تلك المرحلة مدارس نظامية بل كانت مصادر التعليم الموجودة عبارة عن مبادرات من المجتمع وتمثلت في حلقات القرآن «الكتاتيب»، وكان بمثابة العنوان الوظيفي لمن يُقدّم تلك الدروس فيطلق عليه «لمعلم، والمعلمة»، وتعتبر الوسيلة الوحيدة حينها، باعتبارها الوسيلة الأهم للتعليم المتعارف عليه في المنطقة، بالنسبة للنساء بشكل خاص، حيث انها بمثابة مراكز للعلم والتعليم، لذا كانت منتشرة في كل مدينة وقرية في قطيفنا الحبيبة، وقد تضم القرية، أو البلدة، عدداً منها، وجزيرة تاروت الحبيبة، مثلها مثل بقية المناطق، وكسائر ما هو موجود في دول الخليج حينها.
وغالباً ما كانت الأسر تحرص على إلحاق أبنائها وبناتها بتلك الحلقات عندما تصل أعمارهم إلى السادسة أو السابعة أو أصغر من ذلك، من أجل تعلم قراءة القرآن الكريم ولإجادة مبادئ القراءة بطريقة صحيحة.
وفي مثل هذه المرحلة العمرية التحقتْ أختي الكبرى «بالمعلّم»، إذ كان حينها عمري أقل من خمس سنوات، فطلبتُ من والدتي مرافقة أختي في دروسها لتعليم القران، ولكنها لم تستجب لطلبي، لأنني في نظرها مازلتُ صغيرة، ومع كثرة الإلحاح على والدتي ورغبتي الشديدة للالتحاق «بالمعلم»، ورغم صعوبة التحاقي بمثل هذا السن، إلا أن إلحاحي الدائم عليها عبر نوبات البكاء المتكررة، كلما رأيتها جالسة على ماكينة الخياطة، جعلها تستجيب لرغبتي، فتحقق لي ما أردت، فكنتُ في غاية الفرح والسعادة.
وعندما التحقت «بالمعلّم» بتلك الرغبة الشديدة في تعلم القرآن الكريم، ونتيجة حماسي الشديد كنت أسارع إلى إتقان قراءة السورة بعد السورة، للارتقاء، إلى ختم القرآن، مما جعل «لمعلّمة» تسعى لإشغالي ببعض الأعمال، ليتسنى لها التركيز على بقية البنات في الحلقة، وبتوفيق من الله أظهرتُ تميزاً في إتقاني تعلم القرآن كاملاً في فترة وجيزة رغم حداثة سني.
وبعد انتهاء مرحلة الإتقان الأولى لقراءة القرآن، بدأت المرحلة الثانية من التعليم، لأن منهجية التعليم في «لمعلم» حينها، تتكون من ثلاث مراحل، «مرحلة إتقان قراءة القرآن، ثم مرحلة تعليم تاريخ حياة الرسول صلى الله عليه وآلة، ووفيات أهل بيته، ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة التدريب».
وها أنا الآن أنتقل للمرحلة الثانية، إذ كان المنهج المقرر وقتها كتاب المنتخب لفخر الدين لطريحي، أو «الوفاة»، وهو كتاب يحتوي قصة وفاة النبي محمد ﷺ، وقصص وفَيَات الأئمة من ذريته.
وكانت المخرجات المتوقعة من الدراسة أن أكون مشروع خطيبة، أو «معلمة قرآن»، وهذه هي نهاية مراحل تعليم النساء قديماً في جزيرة تاروت في الماضي.
أما المرحلة الثالثة فهي التدريب العملي لكل ماتمّ اكتسابهُ من الإعداد في المرحلة الأولى والثانية، حيث يتم التركيز في هذه المرحلة على مهارة الخطابة والتأثير، حيث يبدأ التدريب بهذه الطريقة:
قراءة مقدمة بسيطة لعدة دقائق، وفي العادة، تقتصر على قصيدة فصيحة، أو أبيات من الشعر العامّي يُعرف محليّاً، أو قراءة بضعة سطور من «الرواية» كما كان يطلق عليها، إلى أن يشتدَّ عودنا، وبعد الإتقان، تبدأ مرحلة الانفصال عن لمعلمة تدريجيّاً، حتى نصل إلى مرحلة الاستقلال بممارسة الخطابة لوحدنا.
ومن حسن الحظ أثناء المرحلة الثالثة وهي مرحلة التدريب على الخطابة، تزامن ذلك مع وجودي مع جدتي لوالدي، «الحِجيّة، استُوتْ بنت السيد مهدي»، لبعض الوقت وكانت في تلك الحُقبة الزمنية هي وأخواتها، أصحاب المجلس الحسيني المعروف «بمأتم بيت سيد مهدي»، وهو مأتم جدي لأبي في جزيرة تاروت.
حيث تميزت جدتي لوالدي بأسلوبها الخاص بالتدريب، وقد تتلمذتُ على يديها في تلك الفترة فكانت رحمها الله في كل ليلة وقبل النوم تدربني على طرق القراءة والخطابة بالتدرج، بقراءة جزئية بسيطة، بأسلوبها الذي تشعرني من خلاله، وكأنني أُساعدها في تحضير ما ستقرأهُ غداً في المجلس، وكنت أعيد قراءة تلك الوريقات القليلة عدة مرات حتى أُتقنها، وأُتقن طريقة لفظها، ولم أكن أفهم قصدها، إلا في اليوم الثاني، عندما يبدأ المجلس في القراءة تطلب مني الجلوس بجانبها، إلى أن يأتي دور الفقرة التي تدربت عليها ليلاً، تضع الكتاب أو «المجموع» كما كان يطلق عليه سابقاً في يدي، وتطلب مني الوقوف للقراءة أمام ذلك الجمع من الحضور، لأنني في نظرها مشروع خطيبة المستقبل لحمل الراية، كحفيدة لإكمال المسيرة، سلام الله على روحها وقلبها.
واستمر الحال على هذا المنوال، لفترة من الزمن، إلى أن توفت رحمها الله، فانتقل مجلسها إلى عمتي الوسطى التي ورثت حب الخطابة منها، وكنتُ في بعض الاحيان أمارس الخطابة خلال هذه الفترة، وأثناء هذه المرحلة تم افتتاح أول مدرسة ابتدائية رسمية حكومية للبنات في جزيرة تاروت، وتجاوب معها المجتمع في إلحاق بناتهم في التعليم الرسمي، ومن حسن الحظ أنها كانت قريبة من بيتنا، وكان عندي رغبة شديدة بأن التحق بالمدرسة، فأبديتُ رغبتي بالطلب من والدي لكنه أبدى الممانعة بقوله لي، إنك لا تحتاجين دخول المدرسة لأنك تعرفين القراءة، وهذا يكفي، وأيضاً بسبب التوجسات أو الهواجس التي عند بعض الأسر، وهو خوفهم على البنات، ومع ذلك زاد إلحاحي وإصراري على والدي بالطلب والترجي تارة، وبالبكاء تارة أخرى، وتزداد نوبات البكاء
بشكل يومي من خلال شباك غرفتنا، عندما كنت أترقب مرور الطالبات ذهاباً وإياباً، بنوع من الحسرة، لاسيما عندما أمسك بقضبان تلك النافذة، أو «الدريشة» كما تسمى سابقاً، وأهزها بكامل قوتي، بكل إصرار وتصميم، ومع كل محاولاتي، إلا أنني وللأسف الشديد لم أستطع إقناعه، رغم حبه الشديد لي، وهذا نتيجةً لتلك الثقافة السائدة عند بعض الأُسر في تلك الحُقبة، «بأن تعليم البنات في المدارس غير مقبول لديهم، وهو أشبه بالحرام، بل ويعتقدون بأنه قد يفسد البنت».
ومع كل هذه التحديات التي واجهتني لم أشعر باليأس، ولا بالإحباط، ولا بالاستسلام، بل زادتني عزيمة وشدّة في الإصرار والإلحاح على تحقيق رغبتي وأمنيتي وهدفي وحلمي، الذي يشبه فراشة جميلة تحوم في قلبي الصغير، بل كان ذلك الشغف لتحقيقه يأخذ حيزاً كبيراً من تفكيري، فبدأت بالتفكير في إيجاد حلول أخرى، تساعدني في دخول المدرسة، لأستطيع أن أُشبع ذلك النّهم الذي يفترس عقلي وقلبي وروحي في حب طلب العلم.
وأثناء هذا المخاض لمعتْ فكرة في رأسي، فكرةٌ قد تكون في حينها جريئة وغير مقبولة، وهي التفكير بأخذ البطاقة العائلية سراً من صندوق والدي وبدون علمه، وفعلاً تحقق لي ذلك، بُكلِ يسرٍ وسهولة، لأنني كنتُ في ذلك الوقت أمينة صندوق والدي، ولديَّ مفاتيحه، وبعد إنجاز المهمة ذهبتُ مباشرة لعمتي الكبرى، لأنها كانت تمتلك سمات الشخصية القويّة العاقلة والحكيمة، وذات الكلمة المسموعة والمؤثرة عند الجميع، وخاصةً والدي، وفي نفس الوقت هي شخصية ذات عقلٍ مرنٍ منفتحٍ في هذا الجانب، رحمها الله رحمة الأبرار، وفعلاً لم أنتظر طويلاً، وهي لم تتأخر في المساعدة، ولم تخيب ظنّي بها، في تحقيق أجمل الأحلام استحالةً في ذلك الوقت، وفعلاً أوكلت المهمة لابن عمتي بأن يذهب بتسجيلنا أنا وبناتها للالتحاق بالتعليم في المدرسة الحكومية.
وبعد أن رأى والدي أنه أمام الأمر الواقع، وافق على مضضٍ، فجهّزني بكل ما أحتاجه، فتحقق حُلميّ الأجمل في حينها، وقد استنّكر عليه البعض ووجّه إليه بعض كلمات اللوم، على قبوله بالسماح لي بالدراسة، فكان يردّ عليهم بهذه العبارات، أريدها أن تتعلم، لكي تُعلم أخاها، إذ كان أخي أصغر مني، فكنتُ حينها طالبة مُثابرة مُجتهدة، ومن الطالبات الأوائل المتفوقين دائماً في هذه المرحلة، وقد ساعدني في ذلك التفوق تعلم القران الكريم، فقد أثرى لغتي، وسهّل عليّ الكثير من بذل الجهد والوقت في بعض المواد، وأصبح تركيزي على المواد العلمية، وخاصة مادة الرياضيات، فقد كنت أستمتع بحل المسائل الرياضية بأكثر من طريقة، وكأنها لعبة ممتعة للوصول إلى نفس النتيجة، وقد كان حلمي الأكبر حينها أن أكون طبيبة، وهذه أولى الخطوات لمساراتٍ قادمة في تجربتي في بعض مراحلي الحياتية.