ماذا بعد الغليان؟
قبل كُل ثورة تتجلى حالة واضحة من الغليان بين الناس، حنق على أنفسهم وعلى الآخرين وعلى الأوضاع العامة. وبعد فترة من مُحاولات تصريف هذا الحُنق هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي أو التضارب مع الآخرين في الشوارع وارتفاع مُعدلات العنف والتحرش والقتل والجرائم؛ يبلغ الأمر منتهاه لتأتي تلك الثورة رغمًا عن عدم الرغبة بها أو عدم الاستعداد لها.
ملاحظة حالة الغليان المُتصاعد على مواقع التواصُل الاجتماعي في الفترة الأخيرة لا تتنبأ بخير، لقد أصبح الناس ناقمين على كل شيء، على الصواب والخطأ، على الخير والشر، على الحق والباطل، وضاعت البوصلة بحيث صار الناس يُهاجمون ما لا يستحق الهجوم، ويدعمون ويُساندون ما يستحق الوقوف ضده ورفضه! وهذا التيار الجارف غير الطبيعي يبدو مُصابًا بالصمم، بعيدًا عن الإنصات لصوت العقل، لا يهمه الانتصار لقضيته حقًا - إن كانت لديه قضية أصلاً - بل يُهمه ”تفريغ“ غيظه وقهره ب ”تدمير“ شخص آخر أمامه بأبشع طريقة ممكنة، وبعد الانتهاء منه توجيه دفة الغضب الهادر لتدمير شخص آخر على أهوَن الأسباب.
التاريخ يُكرر نفسه في تفاصيل كثيرة بطريقة تجعل الأذكياء من الناس قادرين على التنبؤ بالقادم، لكن البعض لا يلتفتون لتلك التفاصيل أو لا يُريدون أن يُصدقوا إمكانية تكرار حدوث ما يعتبرونه مُستحيلاً، ربما لأنهم يتصورون أنهم أفرادًا من شعوب واعية، لكن الحقيقة أن لحظات قفزات الجنون الجماعية لا علاقة لها بالوعي، والحقيقة المؤسفة الثانية: أين هي تلك الشعوب الواعية؟!
عالمٌ من القهر والصمت هو عالمٌ يتكدس فيه الخوف والغضب بانتظار نقطة الصفر لانفجارهما، ونحن في مرحلة من اسوأ مراحل قمع الحُريات وانعدام القُدرة على التعبير، ويبدو أن الجائحة العالمية الأخيرة فاقمت الأزمة وبدأت تُسرِّع من وتيرة الأحداث، فثمة اجراءاتٌ قد تبدو مقبولة عند الناس لفترة من باب الوقاية الصحية والمُحافظة على الحياة؛ لكن قدرة العقل البشري على تحمل ما لا يُطيق تحمله تبقى محدودة، وإن حاول إقناع نفسه بعكس ما تمليه عليه فطرته البشرية الطبيعية زمنًا فلا بد وأن تتمرد تلك الفطرة عندما يصل الأمر إلى مرحلة غير ممكنة التحمُّل وتختار أن تُحرق الأخضر واليابس وتحرق نفسها معه كي تستريح.
لا يدري أحدنا ما قد تخفيه الأيام القادمة في جعبتها، لكن مما لا شك فيه أن من حكمة الحكيم الانتباه لتلك التفاصيل الصغيرة كي لا تجرفه معها كما سيجرف طوفانها السُّذج والمغفلين، عندما لا ينفعهم مكابرتهم ولا عنادهم بالباطل.