بخور أمي
ولدت في أحد أزقة قريتي الصغيرة حيث الجدران المتلاصقة وكأنها تبوح لبعضها بما يقوله من بداخلها من الناس والبشر مطبّقة ما نقوله «الجدران لها آذان».
كانت تقول لي أمي عندما وُلدت وضعناك في كرتون ففي وقت ولادتك لا سرير ولا تخت ولا أريكة.
لم أحظى برؤية أبي فقد فارق الحياة وأنا لم أشعر به بعد!!، أغفو وأصحو على مرحلة الصبا وكيف شدّت أمي بعضدي لتوصلني إلى بيتي الثاني حيث الصبية يدرسون ويمرحون هناك، كيف يلتذوا بما لديهم من نقود وطعام أنظر إليهم من بعيد لآكل ماتبقى من فاضلهم بعد أن يضعونه على الجدران وفي الوقت الذي تزودني أمي بقليل من الثمن البخس الدراهم المعدودة يتقاسمه غيري لأبقى أنا صفر اليدين؟!
أرجع إلى حضن أمي باكياً وقد ارتجفت من شدة الجوع لتعوذني بتمتماتها بمبخرها الصغير.
ويستمر بي خط الحياة في الجد والمسير لأرى نفسي وقد أشتد ساعدي لانتقل إلى مرحلة من عمر جديد لأرُغم على ولوج ما لا أرغب فيبدأ المعترك مع هذه المرحلة ومقاومة الصعوبات حيث التراجع في المستوى الدراسي أشعر على أثرها بأني قد تعبت وقد احتجت أن أرجع لأرتمي في أحضان الوالدة لكي تكللني بتعويذتها.
بعدها أنمو شاباً لألقى نفسي على مقاعد الجامعة بعد أن دخلنا في تحقيق قبل القبول من أنت؟ ومن أين؟ ولماذا أتيت هنا؟ وهل أنت من قرابة الشيخ فلان؟
وبعد كر وفر طال أربع سنوات تقدمت لأستلم وثيقة التخرج من تلك الجامعة لتواجهني أسئلة من النوع ذاته!!
تنطوي رحلة الحياة مع الدراسة لتأتي أيام الوظيفة التي تنقلني بدورها إلى حياة أخرى جديدة هي حياة الشراكة مع الجنس الآخر حيث بارك لي كل من أحبّي هذه الخطوة التي عدوها قفزة نحو السعادة.
وفي ليلة الزفاف وفي الفرحة الغامرة وبعد غسول رجلي الزوجين خطفوه وذهبوا به بعيدا وما هي إلا أيام إلا وبدأت الحسرة بين الزوجين ودارت الكآبة في المكان طولا وعرضا وبدأ البحث عن من يعمر المكان بالصلوات والدعاء.
تمر السنون تتغير الأمزجة وتتغير الهوايات وأصبحت قارئا وكاتبا وتتكون لديه مكتبة أمارس فيها هوايتي كلما تغير مزاجي، أكتب ما شاء الله تعالى لي أن أكتب وتنشر مقالاتي في الصحف والمجلات وتطبع لي المؤلفات والكتب حتى بدأ الطلب من الكتّاب والصحفيين أن أشارك في الاستفتاءات والمشاركات الصحفية وذات يوم من دون سابق إنذار رأيت نفسي وكأني أهوي من على جبل شاهق وكأن أحد يخنقني ويدفعني في وادٍ سحيق وتبدأ الصدمة مما حل بي أحاول أن أتسلق لأخرج من هذا الوادي أنادي في أصداء المكان ليرتد إليه صوتي دونما مجيب أتلفت هنا وهناك لعليّ أرى منقذاً، يراني بعضهم ليقول عليك بالشيخ الفلاني ويقول آخر أن في المحلة الفلانية من يقرأ عليك الرقية ويتكلم الأخير بأن المستشفى الكذائي جيد.
وأنا في خضم هذا المعترك استرجع ذاكرتي لأتذكر بخور أمي وهي تتمّتم بكلماتها «يا شبة شبي ياعدوة انشبي اجهمناهم بالله ومحمد الله أكبر ألله اكبر الله عليك حافظ، شبه وشناظر في عين من طالع وناظر».
ما أن أتمت كلماتها وإذا بي أحسست بأني أصبحت كالطائر الذي يطير بجناحيه ليخرج من ذلك الوادي إلى سفح الجبل وأنا أردد قول الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر - ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
إلى أصدقائي «القراء الكرام» هذه الأسطر ليست قصة واقعية ولا شيء من سيرة ذاتية ولاهي حبر على ورق بقدر ما هي «عوان بين ذلك».