مشكلة العزوف عن القراءة في المجتمعات العربية
التخلف عادة ما يكون ناتج عن قصور في مستوى الوعي بأهمية تحصيل العلوم والمعارف التي ترتقي بالإنسان وثقافته، وتوسع دائرة معارفه، ناهيك عن عدم تقدير قيمة القراءة ودورها في تنمية الرأس مال البشري، والرقي بحال الأمم وتطورها إلى درجات متقدمة من النهوض، حيث يشكل العزوف عن القراءة مظهر من مظاهر التخلف الذي تعاني منه بعض المجتمعات.
ومشكلة العزوف عن القراءة التي يتم الحديث عنها في المجتمعات العربية، وما يُتداول من تقارير وإحصائيات عن ضعف معدل قراءة المواطن العربي سنوياً، ليست مقتصرة على فئات محددة من المواطنين، أو تقتصر على تلامذة المراحل الأولى من التعليم المدرسي، بل يمتد ضعف مستوى القراءة أيضاً إلى طلاب المراحل المتقدمة والجامعية.
وحسب قول المحاضر في جامعة الملك سعود، المتخصص في اللسانيات اللغوية، الأستاذ ”يحيى القبيسي“، ”فإن الطالب يتخرج اليوم من الثانوية ولم يقرأ كتاباً واحداً قراءة كاملة، أعني كتاباً حراً غير المقررات. ولن أبالغ إذا قلت إن معظم طلاب وطالبات الجامعة يتخرجون أيضاً وهم لم يكملوا قراءة كتاب غير مصادر ومراجع المقررات الجامعية. فما السبب؟ أليست القراءة مهمة؟ وهل القراءة ترف؟“. «1»
وإذا كانت الإحصائيات والأرقام، والاستبيانات، والدراسات الميدانية، والتقارير الدورية التي تنشرها هيئات التنمية الثقافية حول موضوع القراءة والمطالعة والمعرفة في المجتمعات العربية، حقيقية وذات مصداقية، فإن السؤال هو: كيف لهذه المجتمعات التي متوسط قراءة الفرد فيها لا يتعدى الدقائق سنوياً، أن تنهض، وتخرج من أزماتها، ويكون لها دور فاعل بين أمم الأرض، ومعدل قراءة المواطن العربي في السنة لا يتعدى ربع صفحة؟
لا يشك ”محمود حمدي زقزوق“ في أن عقلاء الأمة الإسلامية يريدون الارتقاء بحضارتها، ويريدون أن تكون الأمة مشاركة ومؤثرة في الحضارة الإنسانية، حتى لا يكون المسلمون مجرد مستقبلين أو مقلدين أو مستهلكين، إلا إن النوايا وحدها كما يشرح ”زقزوق“ لا تصنع حضارة، ولا تغير من الواقع شيئاً. ومن أجل ذلك فإننا في عالمنا الإسلامي في أشد الحاجة إلى ثقافة جديدة، هي ثقافة التغيير التي تستطيع أن تحول النوايا والأمنيات إلى واقع ملموس.
ويلاحظ ”زقزوق“ أن ثقافة الأمة في الأعم الأغلب صارت ثقافة سكونية منذ عدة قرون، تعتمد على الحفظ والتلقين، وتشجع على التقليد، وليس على الإبداع والابتكار، والمطلوب بإلحاح هو ثقافة تحترم العقل وتمارس الفكر وتنمي شخصية الفرد وتحفزه على العمل المنتج والفكر المبدع. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب على الحضارة الإسلامية، فقد عرفت هذه الحضارة هذا اللون من الثقافة الخلاقة التي أبرزت المواهب العلمية والأدبية والفلسفية وغيرها في كل مجالات العلوم والمعارف، وازدانت الحضارة الإسلامية بالأعلام الكبار الذين كان لهم عطاؤهم المتميز الذي أثرى الحياة الثقافية في العالم الإسلامي، وكان التجديد هو السمة الغالبة في الحضارة الإسلامية، وتميزت الحياة الثقافية الإسلامية على مدى ما يقرب من ثمانية قرون بالحيوية والإبداع، باستثناء بعض فترات شابتها عوامل الجمود والانغلاق". «2»
وعليه إذا أرادت أمتنا أن تنهض من جديد، وتخرج من سباتها العميق، فما عليها إلا أن تولي قضية القراءة اهتماماً كبيراً وواسعاً، وتعتبر أن العلم والمعرفة هو ثروتها الحقيقية، ورأس مالها الحقيقي. وحينما نتحدث عن قضية القراءة والعزوف عن المطالعة، كما تقول ”باسمة يونس“، "فهذا يعني أن الناس لم يتوصلوا بعد إلى الوقوع في غرام الكتب، ولم يتمكنوا من التواصل مع الكلمة بالشكل الصحيح، لأن هناك من لا يبذل وقتاً، أو جهداً لتحبيب الناس بالقراءة أو لامتاعهم بهذه الفضيلة المميزة، وهذا يعبر عن خطأ مستمر يقع فيه اللوم على كل ما يحيط بهم، ولا يشير بأصابع الاتهام نحو شخص أو جهة منفردة.
فبعض الآراء تتهم البيئة الأسرية بأنها السبب في عدم توجيه انتباه الطفل إلى الكتاب من خلال تأسيس مكتبة منزلية، وتعويد الطفل على زيارة المكتبات، إضافة إلى إغرائهم بالقراءة من خلال تقليد الأكبر سناً وهم يقرأون أمامهم. وآراء أخرى تتهم المدرسة والمعلمين الذين يتعللون بقصر الوقت، مما لا يسمح لهم بتعويد الصغار على نشاط قرائي حر. وغيرها تنظر إلى الإعلام على أنه قد سرق عقول الناس ببريقه بينما فرغ محتواه، فامتلأت النفوس المتلهفة إلى المعرفة وغير المدركة كيفية الحصول عليها بالغث". «3»
والصراحة تقتضي القول إن مسؤولية نفور النفوس من عادة القراءة وعدم المواظبة عليها هي مسؤولية مشتركة وتتحملها ما تم ذكره من جهات، بدءاً بالبيئة العائلية، وما يتأثر به الطفل من خلال التربية الأسرية، مروراً بالمدرسة والمعلم والمنهج المدرسي، فضلاً عن البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفرد، فهي إما أن تكون محرضة له على ممارسة عادة القراءة والشجيع عليها، أو منفرة لها.
هذا فضلاً عن دور وسائل التقنية الحديثة، والكمبيوتر، والإنترنت، والتي أخذت الأجيال الشابة، ليس إلى حب الاطلاع والمعرفة، والدخول على المواقع المفيدة والنافعة، بل أغرتهم بالدخول على مواقع الألعاب، ومنتديات الثرثرة.
كما لا يمكن تبرئة وسائل الإعلام المختلفة التي روجت لثقافة الاستهلاك والمتعة، واستقطبت الشباب نحو برامج مسابقات السوبر ستار وغيرها من البرامج التسطيحية الفارغة من أي مضمون علمي ومعرفي وثقافي حقيقي يرتقي بثقافة الأجيال الصاعدة، ويطور قدراتها ومواهبها الخلاقة.