الملا محمد المسيري رحمه الله.. رسول الله إليكم
عندما يُرسِل الله جلّ وعلا احداً ما لأمرٍ ما أو لأداء مهمةٍ ما فلا تكون الا تامة على اكمل وجه «والخيرةُ فيما اختاره الله» وهو الأعلمُ بما كان وما يكون الى يوم الدين...
وهذا ما حصل مع هذا الطود الشامخ والجبل الراسخ صاحب القلب الكبير والحنان الوفير والعطف الغزير، الذي ملأ بهِ ثلاثة بيوتات رئيسية وزُهاء ثلاثين بيت من البيوت الفرعية، علاوة على بيوت فرع الفرع، اطال الله في اعمارهم وجعلهم من الأخيار الصالحين
حيثُ أراد الله عزّ وجلّ أن يُرسل الطافه إلى بيت مثكول بفقد الأب، فأرسل الله الأب الرحيم المرحوم ”ابو جعفر“ رضوان الله عليه إلى الحاجة الطيبة ”طيبة بنت علي بن ابراهيم الهاجري“ اطال الله في عمرها والتي ترملت بعد وفاة زوجها المغفور له ”حبيب علي الشغيل“ وقد خلّف يتيمين صغيرين الكبير ”علي“ سنتين واخته ”فاطمة“ سنة واحدة، «فكان رسول الله اليهم...» فتزوجها ”ابونا“ رحمه الله تعالى الملا محمد ابن الملا علي بن مكي المسيري ”ابو جعفر“ وتكفّل اليتيمين وعاشا في كَنَفه وهو العطوف الرحيم رضوان الله عليه، وكان ذلك بعد انجابه من رفيقة دربه وزوجتهُ الأولى المغفور لها فاطمة بنت منصور المشيقري ”ام جعفر“ تغمدها الله بواسع رحمته واسكنها فسيح جنته ستة من الأبناء، بنت وخمسة اولاد
وبعد قُرابة ثمان سنوات أو أزيَد بقليل، كان هنا في الأحساء كما كان هناك في القطيف، كان هنا بيت يئِن فقد عِماده حيث ثُكلت امي الملاية الحاجة ”خيرية بنت عبدالله بن سلمان المزيدي“ بفقد زوجها ”محمد بن احمد بن حسين البراهيم“ الملقب ب ”محمد الكويتي“ وقد خلَّف ورائه يتيمين صغيرين، الكبير محدثكم ”جاسم“ سنة وستة اشهر وأخي ”ياسر“ ستة اشهر، فأراد الله بأهل هذا البيت اللطف، وبعد زيارات سابقة ومتقطعة للمرحوم الى الأحساء، عقِبها سفر الى الإمارات العربية المتحدة لمدة سنة ونصف تقريباً، هيأ الله الأسباب والظروف وأرسل رزق ”المرحوم“ من جديد الى الأحساء وبالتحديد في حي النعاثل في الحسينية الهاشمية ”المعيوف“، وقد عمَد المرحوم في بداياته الى إحضار زوجته ”ام علي“ الى الأحساء ليُقيم فيها ويستقر، إلا أن إرادة الله حالت دون ذلك، ولم تستطع ام علي على الاستقرار في الأحساء، وكأن الله كان يسوق الأحداث سوقاً، تلطفاً منه ورحمةً بهاذين اليتيمين، في اثناء تواجده رحمه الله في النعاثل، وجد فيها بيتاً يريد أن ينقضّ فأقامه رضوان الله عليه، وكان البيت لرضيعين وكان أبوهُما صالحاً فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما، فأرسل هذا الرجل الصالح، فكان عليه الرحمة «رسول الله إلينا...»، حيث أثناء مكوثه في النعاثل تعرف على الخال المرحوم الملا ابراهيم بن علي الشليان ”بو عايش“، ومنه إلى جدي المرحوم عبدالله المزيدي ”بو سلمان“ فتزوج من أمي، وكان عمري حينها سنتين ونصف تقريبا وأخي سنة ونصف، لذلك لم نشعر قط باليُتم، حيث فَتَحنا أعيننا على وجوده المبارك، وعشنا في كَنَفه، ومن نَفَقته بعد الله كبرنا، وتحت رعايته ورعاية أمي اطال الله في عمرها تربينا، وكان لنا رَحِمَهُ الله أكثر من أب؛ ومَن جالس الملا المسيري لمس فيه دماثة أخلاقه، وطيب معاشرته، وحلاوة مجالسته، وبهاء طلته، ومُلازمة الابتسامة لِمُحيّاه، حيث لم تفارق النكتة والطُرفة لسانه، وقد انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي كثير من المقاطع والمقتطفات التي تدلل على ذلك...
ما أردت قوله هو أن هذا الرجل كان في البيت أضعاف ما كان عليه خارج البيت، وكما يعلم الجميع فقد كان صاحب مكتب سفريات ”حمل اداري“ لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وكان كثير السفر والترحال بطبيعة الحال، مما جعل حياته رحمه الله مليئة بالمواقف والطرائف، وكان صاحب ذاكرة نافذة وذهنية متقدة، حكى لنا الكثير الكثير من المواقف في السفر، وبالأخص في مكة أثناء رحلات الحج والعمرة، وكان رحمه الله شاعراً يُحب الشعر كثيراً ويقرأ فيه؛ ومن المواقف الطريفة إنه في يوم من الأيام تأذى من فأر اجَلّكم الله كان قد قضَم وقَرَض عليه بعض النقود والوثائق فهجا رحمه الله ذلك الفأر بقصيدة طريفة 《علنا نوفق في يوم من الأيام بنشرها》، وقد كتب قصائد في أبنائه، وقد خص بناته بقصائد أخرى دون الأولاد، لأنه كان يحب بناته كثيرا جدا، وإذا كان في تاروت يتصل على أهله في الأحساء في جميع الأوقات وبشكل يومي دون انقطاع ويكلم المتواجدين فرداً فرداً، ومثلها إذا كان في الأحساء اتصل بالقطيف بالمثل، وكان هو من يُبادر أبنائه بالسؤال والاتصال، كان كريماً سخياً مِعطاءً، عندما انجبت له أمي بكره منها وكانت بنت اهداها قلادة جنيهات ذهب كبيرة، وعندما انجبت له اول مولود ولد اهداها حزام من الذهب...
كان يحب المطالعة بشكل عام والقراءة بشكل خاص، يملك مكتبة ثرية مقْسُومة بين الأحساء والقطيف، مليئة بالكتب في جميع العلوم تقريباً، بالأخص علوم الدين بأنواعها الفقهية، والأصولية، والحديث، والتفسير، وكتب الأدب والتاريخ والسيرة والشعر وغيرها...
كان رقيق القلب، غزير العطف، إذا جالس أبناءه كان صديقهم، وإذا جالس أصدقائه كان خليلهم، وإذا جالس رُفقائه كان سامرهم، وإذا جالس زُملائه كان حكيمهم رضوان الله عليه، كان ذو قلب كبير ورحوم لايُطيق أن يرى احد أبناءه في همٍ او سُقم، عاش رحمه الله لأولاده ومن أجل أولاده، لذلك وبعد اسبوع من رحيله رضوان الله عليه وبالرغم من أننا مازلنا نشعر بأنه معنا وبيننا إلا إننا نحن ابناءه نفتقده كثيراً، نفتقد اتصالاته، نفتقد كلماته، نفتقد طرائفه ونُكاته، نفتقد عطفهُ وحنانه...
لكننا لا نملك إلا أن نقول الحمد لله على ما أعطى والحمد لله على ما أخذ، وهو رضوان الله عليه من خير الى خير إن شاء الله، عند مليك مقتدر، عند من وسِعت رحمته كل شيء، فأدخله اللهم في رحمتك التي وسعت كل شيء، واسكنه فسيح جنتك بجوار حبيبك محمد وآل محمد يا ارحم الراحمين.