آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 9:31 م

الأنا والنحن

أفنان المهدي
  • التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة!
  • المؤلف: راينر فونك
  • المترجم: حميد لشهب

فاصل زمني ليس بالقصير؛ ما بين كتابته وترجمته وخروجه إلى النور؛ فقد كتبه المؤلف في عام 2004م؛ واستهلك مترجمه زمناً جاوز السنتين؛ إلى أن طُبع في عام 2016م، والسبب في الترجمة كما يذكره «حميد لشهب» المترجم؛ أنّ ما يصفه الكتاب موجود بدرجات متفاوتة في بلداننا العربية والإسلامية!

والكتاب يتميز بحسب كلام الأخير بالتالي:

1/ التحليل النفسي وعلاقته بالتحليل النفسي الاجتماعي الذي نظّر له «إريك فروم» وطوّره «رانير فونك».

2/ إثراء الكتاب بمصطلحات تحليل نفسية جديدة؛ حددها المؤلف في المواضع حيث يستعملها طبقاً لإطار تحليل نفسي عام؛ - المرجع فيها المقاربة الفرومية - التي نجحت على مدى سنوات من تحليل المجتمع الصناعي في عمقه.

3/ الدراسة هذه أول محاولة علمية جدية استطاعت وصف إنسان ما بعد الحداثة في شموليته؛ وتحليل الأسس النفسية والاجتماعية التي تحدد هويته؛ وتُعدّ دراسة مهمة جداً؛ فهي محور اهتمام الكثير من الدوائر الأكاديمية؛ وما استدعاء فونك للمحاضرة في صلب موضوع الكتاب في العديد من المؤسسات الجامعية حتى الساعة، إلا شاهد إثبات على أهميتها!

عنوان الكتاب «الأنا والنحن» عنوان لافت؛ وهو تعبير عن معيش أناس يكثر عددهم باستمرار؛ يقول الكثيرون اليوم بوعي تام ”أنا“ ويريدون عيش أناهم؛ دون أن يكونوا بذلك أنانيين!

«راينر فونك» مؤلف الكتاب كان عضواً في مجموعة عمل تجريبية لمعهد العلوم الاجتماعية للإشكالات الحالية التي كان موضوعها «توجه الطباع المابعد حداثي» وقد افتتح دراسته بهذه العبارة:

«يقود كلّ تغيّر في الاقتصاد وفي المجتمع إلى تغيّر في الشخصية كذلك».

وتتمظهر هذه التغيرات بالخصوص في فئات اجتماعية بعينها؛ أو في مجموعة مهنية ما، أو فئة؛ أو في وسط ما.

الكتاب عبارة عن أربعة أجزاء - بتعبير الكاتب - وهي:

1/ فيما يتعلق بنشوء توجه الأنا المابعد حداثي.

2/ الإنسان المابعد حداثي.

3/ التحليل النفسي للأنا المابعد حداثي.

4/ الإنتاج وتوجه الأنا المابعد حداثي.

ما المقصود بمصطلح ”ما بعد حداثي“؟

يجيب فونك؛ ليس هو مطلب الفلسفة المابعد حداثية؛ بقدر ما يهم قبول واستقبال طريقة العيش المابعد حداثية؛ التي تتأسس من طبيعة الحال على تمثلات ما بعد الحداثة؛ والمؤثرات لوصف التوجه الطباعي المابعد حداثي في الأماكن التي يكون فيها أسلوب العيش المابعد حداثي منتشراً ومقدماً في العوالم المعيشة بطريقة استعراضية في التسلية والصناعة المرتبطة بوقت الفراغ والدعاية والموضة - وبرأيي هذا ليس تعريفاً مانعاً جامعاً -!

ثم يلفت الانتباه للفتة مهمة في سياق الحديث؛ أنّ عقل الأنوار الذي كان مقدساً للحداثة أصبح محط تساؤل من طرف الفكر المابعد حداثي!

ولو جئنا نختصر مطلب الكتاب الذي تتجاوز صفحاته الثلاث مئة، فالأمر كله يدور ومتعلق بالبرهنة على الديناميكية النفسية لتوجه الأنا المابعد حداثي كتوجه للطباع؛ المفهوم الذي طوّره فروم جوهرياً في نظريته حول الطبع المجتمعي؛ التي هي في الأصل نظرية «فرويد» المتعلقة بالطبع؛ ذلك أن: الطبع المجتمعي من بين ما لديه وظيفة مصفّاة لما يصبح واعياً ولما يجب أن يبقى لاواعياً؛ أو يجعل منه لا واعياً عن طريق الكبت والإنكار، فعن طريق السيكولوجية الاجتماعية التحليل النفسية التي طورها ”فروم“ يمكن فهم ليس فقط توجه الأنا المابعد حداثي الطباعي، وتميزه في ديناميكيته النفسية عن توجهات طباعية أخرى؛ بل أيضاً فهم اللاواعي والمكبوت المجتمعي؛ وقد قام بنفسه في التحليل لبعض توجهات الطبع المجتمعي كالتوجه السلطوي أو توجه التسويق؛ لكنه لم يدرس توجه الأنا المابعد حداثي!

فعند ”فروم“ يتوقف أيّ طبع مجتمعي على ضرورات مجتمع معيّن، وهي ضرورات تكون طبع لأفراد بطريقة يقوم فيها الناس بعمل ما يجب عليهم عمله؛ لضمان الاشتغال الصحيح للمجتمع؛ فيتوقف ما يتمنون القيام به على الرغبات المسيطرة في طباعهم؛ وهي رغبات مشكلّة من ضرورات ومتطلبات نظام مجتمعي معيّن.

العوامل المهمة التي أدت إلى قيام وظهور التوجه المابعد حداثي للأنا:

1/ تطور اقتصاد السوق انتهاءً بتطور الثقافة الرأسمالية الراهنة.

2/ التقدم التقني وتطور تقنيات التواصل المؤثرة في الحياة المجتمعية.

3/ قوة الإيحاء عند الناس.

لفتات مهمة وردت في الكتاب:

1/ تمييز الأنا المابعد حداثية عن النرجسية؛ فالأخيرة تتميز بتمجيد الذات عن طريق الحط من قيمة المحيط الدائرة بها، أو عن طريق الحط من القيمة الذاتية عن طريق تمجيد المحيط؛ بينما المابعد حداثية تفصل الواقع الخيالي لكي تنسى كلّ شيء آخر؛ فإنّها لا ترى على العموم أيّ ضرورة لإدراك ما هو مخفي في محيطها!

2/ الحجة القائلة بأنّ كلّ قوة نفسية ”مُنتجة“ هي في آخر المطاف نتاج القوة الإنسانية؛ لا تكون لها أهمية من منظور سيكولوجي؛ لأنّ الحاسم ليس هو البناء العقلي «أنّ القوة الإنسانية هي التي قد أتت بمعجزة التقنية» بل ما يهم هو التمثل الوجداني والحالة النفسية الفعلية للأفراد؛ فالفرد المواجه لتفوق القوة المنتجة يتمثل قبل كلّ شيء؛ بأنّ القوي ليس هو ذاته بإمكاناته المتواضعة؛ بل المنتوجات!

3/ طبقاً لفهم التحليل النفسي؛ فإنّ ما يجرّ الناس بشغف إلى شيء ما؛ ناتج عن تكوّن طبع معيّن، ذلك أنّ تطور الشخصية الفاعلة النشيطة ونظرتها المستهلكة السلبية هو الشرط النفسي السيكولوجي لاشتغال النظام الاقتصادي والاجتماعي الحالي!

وتبقى ملاحظة أخيرة؛ وهي رأي شخصي - وليس ملزماً لأحد - ناتج من رصد واستقراء ناقص كشيء طبيعي جداً؛ فمن خلال قراءات متعددة لكتب عصرية وحديثة؛ وجدت أنّ المطالب تُعاد بطريقة وأخرى، والكاتب يعيد ويزيد في نفس المطلب لكن بمصطلحات مختلفة؛ وربما يعود السبب إلى أنّ بعض أطروحات الكتّاب العصريين؛ ما هي إلا إعمال وإكمال لأطروحات مفكرين سابقين؛ كما في أطروحة هذا الكتاب؛ فهي في الأصل - كما فهمت - تطوير لنظرية ”إيريك فروم“ في التطبع الاجتماعي!