ساعة بثقل كتاب...
رفوف خشبية وكتب دينية مرصوصة بعناوين ثقيلة الفهم، مكدسة بالمكتبات، تقابلها أرفف لروايات قصصية قاربت نسخها على الانتهاء.
لم يعد يُنقل الفكر الديني ويُلقّح بعقول الأجيال بكلمات كتابٍ كما الأمس، نحتاج اليوم لطرق الثقافة الدينية بطرق متجددة قريبة من حاجات الناس، تناسب تطور الأجيال واهتمامهم، طرق بسيطة سهلة الوصول تعيد ترتيب البعثرة التي يعيشها الفرد نتيجة التشتت بما حوله من اتجاهات.
بصوت هادئ وسعة صدر والكثير من الأدب الأنيق بالحوار، ظهر الشيخ حسن الصفار ببث مباشر في برامج التواصل الاجتماعية فاتحًا المجال للتحاور الأخوي الجميل مع جميع الأحبة، مُرَحِبًا بأي سؤال.
في صورة حديثة مبتكرة للتواصل تمكن الشيخ الصفار باستغلال التكنلوجيا لنشر العلوم والتقرب من الناس، رغم ظروف البعد مع أزمة كرونا. هذا ما نحتاجه اليوم فكثيراً منا لا يعرف أنه خارج المسار الصحيح أصلا، وفي نفس الوقت هي فرصة لتعليم الفرد معنى المشاركة والحوار السليم.
كم أعجبتني عبارة رددها الشيخ الصفار مفادها: «أن كل إنسان شريك في صناعة المستقبل وحماية الواقع وتطوير الحياة» المسؤولية لا تقع على كاهل الجهات الدينية فقط بل تعمُّ المجتمع المدني فرداً ومؤسساتيًا وحكومة.
كانت إجابات الشيخ واقعية وذات مصداقية، خاصة عندما تحدّث عن جانب الخلافات المذهبية التي وصفها بالألغام السياسية، موضحًا كيف أن أخطاء المذاهب ساهمت في تقليل الاحترام لبعضهم بكل شفافية، ودعا إلى ضرورة الاحترام للمذاهب وهذا هو خلق الدين القويم.
قالها بنبرة ثقة: «أن الصراعات طبيعية في مجتمعاتنا البشرية، ونهوض الأمم يعتمد على مدى وعيها وأن الدول العربية بدأت مرحلة التجديد، وشجعنا إلى التفاؤل؛ لأن المسير إلى التغيير يحتاج إلى وقت وأكثر من جيل. ونحن كمذهب أهل البيت أكثر قدرة على مواكبة هذه الظروف المستحدثة؛ لأن باب الاجتهادات الفكرية مفتوح لدينا وفي حركة مستمرة دائما».
ورغم تخوّف الكثير من المستمعين من قدرة الفكر الديني لمواجهة الظروف الراهنة، إلا أن الشيخ كان كما عهدناه إيجابي التفكير يرى الجانب المشرق المحفز؛ فكان ردّه: «إن للبيت رب يحميه، والدين لا قلق عليه، وإنما القلق على حياة المتدينين في هذه المتغيرات واستجابتهم لها، فلا داعي أن تستوطننا مثل هذه المخاوف».
إن أكثر ما لفتني في ردود الشيخ الصفار سرعة إجاباته، وقوة حججه المبنية على معلومات عالمية توضح فكرته، وطرحها بأسلوب يفهمه الكبير والصغير
هو حقا يزرع الحكمة في آذاننا وعقلونا بمناقشاته، وعقول أجيالنا الذكية ترغب بهكذا حوار هدفه؛ التوضيح وترك فسحة للتفكير من بعدها.
في معادلة الحوار أتقن الشيخ الصفار أن يكون طرفاً ذو رجاحة عقل محفز للطرف الأخر بحرية الطرح حيث كان لمقدمة حديثه تحديد العمومية للرجال والنساء دون تخصيص، وختم حديثه بشكر كليهما، جميلة جدا هذه الالتفاتات التي ترقى بالمرأة المسلمة، والتي تهبها حرية الرأي والتفكير، والمشاركة في عملية بناء النهضة.
ساعة لا أعرف كيف ابتدأت وانتهت بهذه السرعة، ذلك الشعور بالبساطة والبعيد عن العلو الذي رافقنا به الشيخ الصفار وموازنته للمعادلات بطريقة منصفة لكل الأطراف بعيدًا عن الانحياز، هو ما يجعل الأمور واضحة لنا كمتلقين، فهمنا من خلالها تفسيرًا لعنوان اللقاء «المشهد الثقافي والفكري الديني في ظل التحولات» بأسلوب شيق وممتع ومفيد.
إن العباءة الدينية تتسخ أحيانا بشخصيات محددة الفكر، متعصبة الاتجاه، تتصنع العطاء، هذا ما يجعل الأمور أثقل لجاذبية التعلم ومرونة التقبل من الناس. هنا تمتد أيدٍ نظيفة نادرة مثل يد الشيخ الصفار تتحمل مسؤولية مجتمعية كبيرة لبناء ما تم تدميره، وسد ثغرات وحفر يخلقها سفهاء العلم والمتربصين بالدين.
وجدت أبوابًا كثيرة مفتوحة للتواصل مع رجال العلم فيما يخص الخمس والزكاة وعمل الخيرة وعقود الزواج، ووجدت مجلس الشيخ الصفار مفتوحًا للنقاش والحوار لكل المذاهب والأديان، يتقبل النقد، ويرى أن لكل فرد قيمةً وتميزًا، يشجع كل سبل التعاون ويبدأ بتطبيق ذلك بدأ من نفسه، شخصية تاريخية ذات فكر إنساني منفتح على العالم سابق بأطروحاته ورؤيته ووقته، أبناؤنا اليوم بحاجة لرجل مثله يكون بالقرب منهم خاصة المتغربين منهم. نحتاج أن تكون هناك نسخة لفكر الشيخ في كل قرية متمثلة في شبابنا الواعد عندها أجزم أن مسيرتنا للصعود ستكون أسرع وأنفع.
نحن بالسعودي نملك مدرسة ثقافية كبيرة من العلم مخلصة بالعطاء من أجل الدين والوطن متمثلة «بالشيخ الصفار حفظه الله» الذي استطاع من خلال اتجاهاته في بناء الشخصية وتنمية المجتمع وحماية حقوق الإنسان حل الكثير من المشاكل وتقريب المذاهب فيما بينهم. كم أتمنى أن تكثر مثل هذه التواصلات الحوارية المباشرة فأثرها الحقيقي كبير جدًا.
«هي ساعة لكنها بثقل كتاب»