من هؤلاء الناس؟
عالمٌ من الصَّخب والصِّراعات والخِلافات على ”لا شيء“، أشخاصٌ لا يعرفون بعضهم البعض على أرض الواقع يسعى أحدهم لتدمير الآخر وسحقه عن طريق تشويه سُمعته أو تبليغ بعض الجِهات عنه أو رفع القضايا ضده بسبب موقف أو رأي أو كلِمة نُشِرت سهوًا أو عن حُسن نية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في لحظة صفاءٍ عفوية بين من كان الشخص يعتبرهم ”اصدقاء“ أو ضيوف كُرماء في ذاك ”المجلس“ الافتراضي الوِدي.
مواقع التواصُل الاجتماعي في عالمنا العربي تحولت إلى ”فخ“، تبدو الحُرية الوهمية فيه طُعمًا جذابًا مُغريًا لاصطياد المحرومين من المساحات الكافية للتعبير عن آرائهم في عالمهم الواقعي، والمحرومين من نعمة الاستحسان والاهتمام الكافي بأقوالهم وأفعالهم، وذوي المشاعر الحانقة المكبوتة التي لا تجد قنوات تصريف أخرى مُناسبة تحتويها وتستوعبها، والخطأ ليس في هؤلاء لأنهم بشرٌ ككل البشر، والكائن البشري الطبيعي يحتاج الكلام، ويحتاج حُرية التعبير عن آرائه، ويحتاج المديح، ويحتاج الثناء، ويحتاج الاستحسان، ويحتاج الاهتمام، ويحتاج أذنًا تُنصت لمشاعره، وكفًا حانية تربت على كتفه ساعة شعوره بالحزن أو الحنق أو الإحباط، الخطأ الحقيقي أن الواقع الحقيقي لنسيج المجتمع والأسرة مازال فقيرًا في قدرته على استيعاب تلك الاحتياجات، ومازال بخيلاً في اعطاء المشاعر القادرة على تضميد تلك الجروح ومعالجة تلك الآلام، فتنتقل بحثًا عن ضوء وماء ودواء معنوي/ عاطفي/ مشاعريّ من الغُرباء في تلك المواقع، والغُرباء يظلون غُرباء مجهولين، بينهم الطيبين المُسالمين وبينهم الخطِرين وإن وضعوا صورة ”حملٍ وديع“ كخلفيَّة تعريفية لحساباتهم هناك.
لقد غدا هذا العالم الافتراضي أشد خطرًا من العالم الواقعي، فالمواضيع التي تُناقشها بعفوية بين أهلك وأصحابك الذين تجلس معهم وتراهم لحمًا ودمًا قد تؤدي إلى بعض الصراعات والمُشاحنات في مكانها، لكنها لا تتجاوزها إلى تقديم شكاوى ضدك بهدف تدمير مستقبلك والزج بك بين جُدران السجون، والمشاعر التي تُفصح عنها بأريحية قد تؤدي إلى استياء المُحيطين بك وتغير أسلوب الفرد منهم في التعامل معك، لكنها لا تتحول - فجأة - إلى "قضية رأي عام - مُضخمة تضخيمًا مؤذيًا تتجاوز حدود ما كُنت تقصد إلى ما لم يخطر لك على بال! وحين تجلس مُتسائلاً بينك وبين نفسك عن هذا الطوفان من المشاعر السلبية المُنطلقة من الجدل الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي؛ تكتشف أن أكثر هذا الجدل عن أمور تافهة ما كُنت ستهتم لها أو تفكر بها لو لم يكُن هؤلاء الناس يتحدثون عنها، ثم تكتشف أن من سعى لإطلاقها وترويجها شخصٌ لا تعرفه، وليس بينك وبينه أدنى علاقة، بينما عشرات أو مئات الخائضين في تلك المسائل والمُتحدثين عنها والمُنفعلين لأجلها ممن شاءت الأقدار اجتماعهم في حساب التواصل الخاص بك لا علاقة شخصية لهم بالأمر لكنهم انجرفوا مع التيار مخدوعين ليتم استغلال مشاعرهم اسوأ استغلال، عدا عن كونك قد لا تعرف أكثر هؤلاء الناس ذوي المشاعر المُنجرفة معرفة شخصية، وما أسهل انتهاء تواصلك معهم ونسيانهم إياك إلى الأبد بنقرة زر تُلغي فيها كل حساباتك في العالم الافتراضي!
مواقع التواصل الاجتماعي بدأت بصفتها ”رحمة“، ونافذة ضوء وأكسجين صغيرة تمنح الإنسان فرصة جديدة للشعور بإنسانيته وقُدرته على الاختيار: اختيار دائرة معارف جديدة، صداقات، آراء، مُعتقدات، قناعات.. ومن الظلم للإنسانية أن يُحولها بعض ذوي النوايا السيئة إلى ”نقمة“ وتجبرنا إلى الهرب من عالم افتراضي كان ملجأ للهاربين من اختناقهم بالعالم الواقعي.