مفهوم العقل عند العرب
العقل هو محصلة مجموعة القوى الإدراكية لدى الإنسان والمناط بها كل من الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالبًا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. يملك العاقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، ومعالجة المشاعر والانفعالات التي في ضوئها تتحدد المواقف والأفعال.
وعلى نحو مختصر وبسيط، يمكن القول إن العقل هو قدرة الإنسان على توظيف معرفته وتجاربه لمصلحته. فكلما زادت قدرة الفرد على توظيف معرفته وخبراته في الحياة بما يخدم مصالحه تأكدت صفته كعاقل أكثر فأكثر. لكن لماذا اسمى العرب تلك القدرة لدى الإنسان بالعقل؟!، من أين جاؤوا بهذه التسمية؟!. وما علاقتها بدلالة لفظ عقل الدال على القيد والتثبيت؟.
فلفظ عقل في دلالته الأولى يدل على قيد الدابة بما يمنعها من الابتعاد عن مكان وقوفها. وعقل الدابة منعها من الذهاب. من هنا جاءت التسمية. فتشبيهًا بعقل الدابة كانوا يطلبون من الشخص المخاطب ان يعقل ما يلقى عليه من نصائح وتوجيهات في وعيه ولا يدعها تفلت منه كما تفلت الدابة غير المعقولة من صاحبها، على الأخص أولئك الشباب اليافعين من أبنائهم الذين للتو بدأ الآباء في الاعتماد عليهم في القيام ببعض المهام وتحمل بعض المسؤوليات. فيقال لأحدهم: أ عقلت عني ما قلتُ لك؟ أو يقول بعضهم لبعض مستوضحًا؛ أ يعقل «الشاب» ما قيل له؟. وهذا الطلب أو التوصية بعقل الكلام المتضمن نصائح وتوجيهات لكي يتصرف المخاطب بمقتضاها ولا يعرض عنها كأنه لم يسمعها. فإذا تصرف بمقتضاها، قيل عنه أنه عَقَلَ الكلامَ. وقد ورد في القرآن الكريم هذا المعنى في عدة مواضع منها هذه الآية الكريمة.
"قال الله عز وجل: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]. أي أ فلا تعقلون ما تتلون من الكتاب؟ وهو استفهام استنكاري لان في الكتاب الذي يتلونه أمر لهم بالبدء بأنفسهم وليس الاكتفاء بأمر الآخرين فحسب.
إلا أن العرب ذهبوا في تعريف العقل كقيد أبعد من ذلك. فالعقل عندهم ليس فقط في عقل الكلام بل تعداه إلى عقل الإنسان نفسه عن ان يفعل كل ما يحلو له أو يرغب في فعله. فالعاقل لا بد له من أن يتقيد بمعايير وأخلاق المجتمع وما تسالم عليه الناس في مجتمعه. ومن هنا جاءت تسمية العقل بالحجر كما في قوله تعالى"هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر: 5]؟. فالعاقل هو من يحجره عقله عن بعض الأفعال غير المرضية عرفًا. بل العاقل من ينهاه عقله عن ان يفعل ما يشاء أو ما يحلو له. قال تعالى ﴿كُلوا وَارْعَوْا أَنعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى﴾ طه 54، وكذلك في قوله تعالى
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلكنَا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى﴾ طه 128. وقد جاء في كتب التفسير وفي كتب اللغة أن النهى هي العقول لأنها تنهى أصحابها عن فعل الرذائل.
وهذا المفهوم عن العقل كمفهوم يتحدد بقدرة الشخص على ضبط سلوكه بما يتناسب مع معايير وقيم يحمدها المجتمع لا بما يمتلكه من معارف أو ما يتمتع به من قدرات عقليه من منظار علمي، مفهوم لا يزال راسخًا في الثقافة العربية إلى يومنا هذا. فهو مفهوم مرتبط بالجانب العملي من حياة الموصوف به وليس بالجانب النظري. فلا تزال تتردد في كلامنا اليومي ألفاظ تصف الإنسان العاقل من هذه الزاوية، زاوية الجانب العملي المتقيد بضوابط اجتماعية، فيقال فلان ثقيل وفلان هادئ وفلان راكد، وكلها لها دلالة الانضباط والتقيد.