العنف المنزلي في زمن كورونا
يمكن للمعرفة أن تكون أداة تحرر ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون أداة سيطرة، خاصة عندما تصبح مرتبطة بالغايات والأهداف السياسية والاجتماعية القمعية التي تتوخى الهيمنة. عقل التنوير لم يعد تنويرياً، الذي كان هدفه تحرير الإنسان من الأساطير، أصبح هو نفسه أسطورة تخفي الهيمنة ودوافع المهيمنين. هذا ما أكدّه هوركهايمر في كتابه «بدايات فلسفة التاريخ البروجوازية». فالمجتمعات المعاصرة أصبحت تعتمد على ابتكار وسائل جديدة للإنتاج لا من أجل بلوغ مستوى صحيٍّ معيّن فحسب، وإنما لسيطرة بعض الفئات على الأخرى. فالسيطرة أصبحت تعتمد على ”العقلانية“ التي بشّر بها فلاسفة ومفكرو التنوير، ولكنها لم تعد لغايات تحررية. هذا النمط من العقلانية الذي سمّاه فلاسفة مدرسة فرانكفورت بالعقلانية الأداتية أو العقل الأداتي. وبهذا تحوّل الإنسان نفسه إلى أداة أو شيء. ويدخل ضمن هذا الإطار من الهيمنة السيادة الذكورية أو الفكر البطريركي الذي يعاد إنتاجه باستمرار من خلال السينما، والأغاني، والخطاب الديني، والخطاب الذي يتخفّى وراء ”العلمية“ كبعض نظريات التحليل النفسي وبعض الكلاسيكات اليسارية، وثقافة تسليع المرأة وابتذالها في هوليوود، والخطاب السياسي المحافظ، وكذلك ثقافة البورنو، كل ذلك يساهم بدرجات متباينة في تعزيز ما يسمى اعتباطاً ”طبائع فطرية للذكورة والأنوثة“. هو ما عبرت عنه فرجينيا وولف بالسلطة التنويمية للهيمنة التي حوّلت النساء إلى كائنات ناقصة وأشياء تُستهلك. إنه العنف الرمزي اللا مرئي حتى بالنسبة إلى بعض ضحاياه، إذ تشترك الضحية والجلاد في استبطان نفس التصورات عن العالم ونفس المقولات التصنيفية، ويعتبرا معاً بُنى الهيمنة من المسلّمات والثوابت. وفي دراسة لإفلين غودنو عن صور الجنسين في مختلف وسائل الإعلام، تضمّنت استفتاءً للأمهات والآباء، وصِفت النساء بأنهن مقارنة مع الرجال: غير مباشرات، غير منطقيات، أكثر إطناباً، ماكرات، مخادعات، أما الرجال فقد وصفوا بأنهم: تحليليون، دقيقون، تجريديون ومباشرون. تخبرنا هذه الدراسة عن الأفكار النمطية التي يتعامل معها الذكور على كونها مسلّمات لا تقبل الدحض. فهم يتمتعون بتوازن عاطفي في حالات الأزمات «وهذه الصور النمطية عن عقلانية الرجل مستفزة جدًّا لفرويد»، ويسترشدون في أفعالهم بالوقائع الموضوعية أكثر مما يسترشدون بالمشاعر اللا عقلانية، ولا تؤثر فيهم التوافه وسفاسف الأمور.
أما المرأة فهي خاضعة، مقلّدة، سهلة التأثر، أقل موضوعية، تتحكّم فيها عواطفها. وتكاد تتفق معظم النسويات على أن الفكر الذكوري متجذر في البنيات اللا شعورية والاجتماعية في مجمل المجتمعات المعاصرة، وما الاختلاف والتفاوت إلا في الدرجة لا في النوع.
في الصين مثلاً، شهدت منظمة غير حكومية مقرها بكين مُكرَّسة لمكافحة العنف ضد المرأة، زيادة في المكالمات على الخط الساخن منذ أوائل فبراير الماضي، عندما أغلقت الحكومة مدناً في مركز تفشي الفيروس. وفي لبنان صرّحت قوى الأمن أن الخط الساخن المخصّص لتلقي شكاوى العنف الأسري شهد ارتفاعاً في عدد الاتصالات التي وصلته بنسبة مئة في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وارتفعت حالات العنف الأسري في فرنسا بأكثر من ثلاثين في المئة خلال أسبوع واحد، مما دفع السلطات إلى الإعلان عن سلسلة من الإجراءات لمساعدة النساء على التبليغ عن تعرّضهن للعنف وإيوائهن. وفي إسبانيا تلقّت خطوط الطوارئ مكالمات أكثر من 18 % في الأسبوعين الأولين من الإغلاق القسري مقارنة بالفترة نفسها من الشهر السابق. وفي فرنسا أفادت الشرطة بأنه حدث ارتفاع وتيرة العنف المنزلي بنحو 30 بالمئة. وفي إيطاليا شهدت تقارير العنف المنزلي ارتفاعاً بعد وقت قصير من انتشار الفيروس، ولم يكن هناك مكان تلجأ إليه النساء اليائسات. فالملاجئ لم تستطع مساعدتهن لأن خطر العدوى كان كبيراً. وبريطانيا أيضاً شهدت ارتفاعاً مشابهاً.
أما في أمريكا، حتى قبل الوباء؛ فقد أظهرت الأبحاث أن امرأة من كل أربع نساء أمريكيات تتعرض لنوع شديد من أنواع العنف. بما في ذلك الركل والخنق أو الحروق عن قصد على يد شريك حميم. وقبل انتشار فيروس كورونا، 31 % من النساء الأمريكيات يتعرضن للعنف الأسري، وعلى الأرجح أكثر من ذلك لأن معظم الحالات لا يتم الإبلاغ عنها كما يحدث في العالم العربي. صحيح أنه قد تختلف أسباب ودوافع تعنيف النساء وقتلهن بين المجتمعات الغربية وغير الغربية؛ ولكن النتيجة في نهاية المطاف واحدة، كما أشارت إلى ذلك شارون أراجي في مقالها حول العنف في المجتمعات الغربية وغير الغربية، فالفروقات تكمن في أنه ”في المجتمعات الغربية، الزوج أو الشريك الحميم الذكر هو الذي يطبّق جملة من الأفعال العدائية ضد المرأة بما فيها القتل، فيما تقع مسؤولية أعمال العقاب في المجتمعات التقليدية على العائلة البيولوجية للمرأة“.
كذلك ثقافة البورنو السوقيّة وثقافة هوليوود الشعبيّة قد تحرض على ارتكاب جرائم جنسية، تحت مفهوم ”حينما تقول المرأة لا فإنها تعني نعم“. فأفلام البورنو تحوّل الجنس والرغبة الجنسية إلى عملية استعراضية سادية شبقيّة، فتبدو ”حقيقيّة“ أكثر مما هي عليه في الواقع، ومن هنا تكمن خطورتها في تشكيل وعي المدمنين عليها. ثقافة البورنو ليست إلا انعكاساً عصرياً لثقافة ذكورية تاريخية تتمثل في ثقافة السبي والاستعباد الجنسيّ للمرأة. وهذه الثقافة تجعل كل شيء مع المرأة مباحاً، بسبب ”طبيعتها“ المازوشيّة، فهي تتلذذ بالألم والإهانة، وتعشق الرجل الذي يُخضعها. وهكذا تُسقط هلوسات الذكوريّ المريض على المرأة باعتبارها انعكاساً لطبيعتها بيولوجياً ونفسياً مع تجاهل دور المؤسسات الاجتماعية «الدولة والدين والعائلة» التي أنتجت ومن ثم عززت استمرارية هذه المفاهيم المرضيّة.
كما أن لوسائل الإعلام تأثيراً واضحاً في سيكولوجية الرجال ”العقلانيين“ والنساء ”العاطفيات“ على حد سواء، فتشعر بعض النساء أنهن لسن جميلات بما يكفي قياساً بنجمات البوتكس ونجمات الإغراء والسينما بينما تتحفز شبقية الرجال حد الهوس إزاء أوهام الأجساد المثالية. ولا أعرف ثقافة أو مجتمعاً معاصراً لم يتأثر بشيء من هذا القصف الإعلامي، الذي يعزز من عقد النقص فيما يتعلق بمظهر الجسد. ولقد تنبهت بعض الحركات النسوية وبعض الرائدات في النشاط النسوي مبكراً لخطورة السينما عندما تكون أداة رئيسة لنشر الأساطير الذكورية والثقافية وتأبيدها. مثلا سيمون دي بوفوار في كتابها ”الجنس الثاني“ تقول: ”إنه من خلال هذه الأساطير التي نجدها في الأديان والتقاليد واللغة والحكايات والأغاني والأفلام نستطيع تفسير وجودنا المادي كرجال ونساء“. وإذا كان النموذج المحتذى أو الأنا الأعلى لأي مجتمع ذكورياً، فليس من المعقول أن نتوقع من من المتماهين مع المثال الأعلى أن يكونوا ”نسويين“ أو مناضلين ضد مصالح الطبقات البطريركية. وللتفاوت الطبقي أيضاً وما يولده من إحباط وحقد بين الطبقات المهمشة دورٌ في إزاحة عدوان الهامشي من الطبقات المهيمنة إلى المرأة واتخاذه طابعاً جنسيا طبقياً. مثلا في رواية نجيب محفوظ ”بداية ونهاية“ يصف البطل حسنين مشاعره ورغباته إزاء فتاة من الطبقة الارستقراطية: ”هذه امرأة إذا ركبتها فقد ركبت طبقة بأسرها“ فإحساس حسنين بالدونيّة إزاء الطبقة الارستقراطية ومزاياها الاجتماعية والاقتصادية؛ لم يزده إلا تشبثاً بفحولته. وكأنه من خلال الفعل الجنسي مع فتاة ارستقراطية سيصبح فوقهم ويغير الواقع الطبقي ولو على الصعيد النفسي.
وللحديث تتمة.