الامام علي (ع) والعزلة
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ سورة الكهف.
فرق بين الوحدة والعزلة، الوحدة شعور الفرد أنه يواجه الضغوطات والمشاكل والأزمات لوحده، لا أحد يهتم بقضاياه ولا يُساعده في شكواه، قد يكون المرء بين الناس جسدا لكن يشعر بوحدته بعيدا عن المجتمع لكن العزلة هي الابتعاد الجسدي والذهني عن الناس يخلو بنفسه مع همومه وأفكاره ومراجعته ومحاسبته لذاته وعلاقته بالله ومع الآخر، أحيانا تكون العزلة قسرية كما هي الأمراض وانتشار الأوبئة المعدية، أو اختيارية وغالبا النوع الأخير تختص بالعباد والمفكرين والفلاسفة والشعراء يعيشون مع ذواتهم باختيارهم، ينفردون مع تأملاتهم وهمومهم وأفكارهم في تدبر وتقييم وتأمل في الطبيعة والكون للتعمق بالعبادة والتدبر والزهد وبعضهم ليقدم إنتاجا فكريا ومعرفيا وأدبيا أمثال ارسطو وسقراط والشريف الرضي وابن سينا والمتنبي وابن عربي.
العزلة يختارها البعض بعد تجارب حياتية وخبرات مع المجتمع يؤثرون فيها الابتعاد عن الاختلاط للمراجعة والتأمل والمقارنات الحياتية والخلوة مع النفس لتقويم مسيراتهم لزيادة المعرفة والتقييم لمكتسباتهم.
كل الديانات السماوية والدنيوية ارتبط أتباعها بالعزلة خصوصا للعبادة والتأمل في الخلق والحياة، ولإنتاج الرؤى، وهذا لا يكون الا بالتفرد عن ما يعكر صفو المتأمل بالصمت الطويل المرتبط بالتفكير والمنتهي بالفوائد الشخصية.
العزلة الفردية ليست سلوكا سلبيا للأفراد فهي حركة داخلية لضبط النفس وفتح حوار مع الذهن للتفكر والإبداع.
العزلة في الثقافة الاسلامية ما نفهمه من الحديث عن الرسول ﷺ ”العزلة عبادة“، تفرد العبد للعبادة لله بعمق ومعرفة ومحاسبة ذاتية.
للأمام علي بن ابي طالب مفهوم في العزلة ندرك بعضه من أقواله ”يأتي على الناس زمان تكون العافية فيه عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس وواحدة في الصمت“، الذي يفهم منه الاستثناء أو إذا ما كان في الزمان فتن وبالمكان محن وابتلاءات يصعب معالجتها إلا بالابتعاد والسلامة فيها بالانعزال، كما نفهم من عبارة إمام المتقين ”في اعتزال أبناء الدنيا جماع الصلاح“، الذي يفهم من هذه العبارة من كان همهم الدنيا وملذاتها فقط، فالأفضل والخير النأي عنهم، هذا ما يؤكده الأمام الكاظم ”الصبر على الوحدة علامة قوة العقل فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها“.
يقول أمير المؤمنين ”من اعتزل الناس أمن شرهم“، فهنا العزلة حين يخاف المرء من الشر والفتن، ولا يقصد بالعزلة الدائمة المبتعدة عن قضايا المجتمع ومساعدة وخدمة الناس، ولا العزلة كما هي في الرهبنة، أو الهروب من الواقع الاجتماعي بعدم الاختلاط مع المجتمع فهذه سلبية وليست إيجابية، فالإنسان اجتماعي بطبعه يأنس بالآخر ويسعد بالاجتماع مع الأفراد، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يتفاعل مع حركة المجتمع الإيجابية النافعة في التنمية والتطوير ماديا ومعنويا، قال سيد البشر ﷺ ”من مشى في حاجةِ أخيه ساعة من ليلٍ أو نهار قضاها أو لم يقضها كان خيرا له من إعتكاف شهرين“، وقال أمير المؤمنين ”تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهلهِ فإنَّ للجنَّة باباً يقال له“ المعروف ”لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا“.
العزلة المقترنة بالعبادة والتقوى عند الامام علي هي مراجعة العبد لذاته ولأعماله وعلاقته مع ربه ومع الناس فيما مضى وفيما سيأتي، العزلة الإيجابية مرتبطة عادة بالتقوى والعبادة لمحاسبة السلوك وكل فرد يحتاجها بين فترة وأخرى مثل دورات تنمية الذات وتطوير المهارات وصقلها من خلال الدورات التطويرية والتنموية يقول أمير المؤمنين ”ملازمة الخلوة دأب الصلحاء“، وله أيضا ”العزلة حسن التقوى“، وقال ”في الانفراد لعبادة الله كنوز الأرباح“، وله قول ”نعم العبادة العزلة“، وقال كذلك ”من اعتزل حسنت زهادته“ كل حكمه وعباراته مقترنة بالعبادة والتقوى والزهد.
حكم وأقوال الأمام علي بن ابي طالب كثيرة ومتعددة مباشرة وغير مباشرة التي تصب في العزلة والتفرد الإيجابيين لبناء الذات من خلال ممارسة العبادة ومحاسبة النفس والعودة للمجتمع بما يجعله يتفاعل مع الناس بسلوك أفضل ناتج عن فهم العزلة المفيدة والتفرد الإيجابي.
الامام علي نظر إلى الحياة الفانية بالزهد فتزينت له الدنيا، رغبة فيه كما قال الرسول ﷺ بحقه ”إن الله زينك في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا ولا ترزأ الدنيا منك شيئا، ووهبك حب المساكين فجعلك ترضى بهم أتباعا ويرضون بك أماما“.
وأخيرا وليس آخرا قال أمير المؤمنين ”من اختبر اعتزل“، ومن كلماته، ”من عرف الناس تفرد“.