ظاهرة الإلحاد: محاولة للفهم
في مقالتيه ”فولتير: الخرافة أفضل من الإلحاد“ و”جون لوك: لا تسامح مع الإلحاد“ يرى الشيخ زكي الميلاد أن فولتير الذي ”عُرف بنقده الشديد والصارم للخرافات... يرى أن الخُرافة أفضل من الإلحاد“ وفي مقاله الآخر عن جون لوك وعدم تسامحه مع الإلحاد يقول الشيخ ”أما في نظر لوك فإن من ينكر وجود الله فإنه لا إيمان له بالعهود والعقود، لأن لا إيمان له بشيء في الحياة“.
ربما نسي الشيخ أن فولتير عزا الإلحاد إلى اللاهوت نفسه، ولرجال الدين الذين أفسدوا عقول المؤمنين وشتتوا إيمانهم. وربما نسي الشيخ أيضاً أن فولتير حذّر من عواقب إبقاء الشعب تحت سيطرة الأوهام التي تهيّئه للتعصب.
إنّ أفضل دواء لعلاج هذا الداء كما يرى فولتير هو الاحتكام إلى العقل، ولا أظن أن الشيخ يقبل بحاكمية العقل على الشرع أو ”النقل“ ولو بالمفهوم المعتزلي!
أما جون لوك ذو الميول الربوبية في كتابه ”رسالة عن التسامح“ الذي اعتمده الشيخ الميلاد في مقاله، فقد كان جون لوك خائفاً من تشدد الأصوليين المسيحيين، ولذلك نشر كتابه باللغة اللاتينية لغة العلماء والخاصة، لا الانجليزية التي كانت لغة العامة، بل أنه حذف اسمه قبل نشر كتابه. أما النظرية القائلة أنه لا يمكن الوثوق بالملحدين - لأنهم لا يخشون العقوبة الإلهية إن كذبوا أو أخلّوا بالوعود - فإنها وفّرت أساساً قانونياً للتمييز الذي استمر في انكلترا لمدة قرنين بعد وفاة لوك.
الأمر لا يخلو من غرابة وطرافة في آن أن يستعين الخطاب الديني بفولتير لمهاجمة الإلحاد والملحدين. هل نسي الشيخ ”قضية كالاس“ التي أثارها إصدار محكمة تولوز حكماً بالإعدام على جان كالاس عام1762م، وكيف استثار هذا الحكم فيلسوف عصر الأنوار فولتير ليرد بكتابه الذي ذكره الشيخ ”رسالة في التسامح“ من أجل رد الاعتبار إلى المحكوم عليه ظلماً جان كالاس؟!
وإذا افترضنا أن الشيخ يدرك ذلك، فما الذي يحاول الشيخ قوله من خلال الاستعانة بفولتير ضد الملحدين؟! هل هو تبرير ضمني لنزعات الإقصاء والتكفير في الخطاب الديني ضد المختلفين والمغايرين؟ وكأنه يريد أن يقول: حتى رموز التنوير لم يكونوا متسامحين مع الإلحاد لخطورته على الواقع الاجتماعي فلمَ إذن هذا النفور والتذمر من عدم تسامح الفقهاء ورجال الدين الإسلاميين مع نزعات الإلحاد والملحدين؟
ثم هل نسي الشيخ أن القمع يحرّض على الشيء نفسه الذي يحاول التغلب عليه؟ أكثر من ثلاثين عاماً من الهجمات الطائفية الشرسة في الإعلام والتعليم ضد الشيعة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فما النتيجة؟ الشيعة أصبحوا أكثر تمسكاً وتشدداً في عقائدهم!
أماخطاب ريتشارد دوكينز وخطاب الملحدين الجدد الانتقائيين والمعروفين بمنهجهم الشعبوي كسام هاريس والراحل كريستوفر هيتشنز الذين جعلوا من الإلحاد مهنة ورسالة تبشيرية ومن الإسلام هدفاً دون بقية الأديان الأخرى، فإنه يغذي ويشجع الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين، كما أن مجمل الخطاب الفقهي المعاصر يصب في الخانة نفسها.
ولا أجد ثمة فرقاً بين المتدين الذي يبرر الحروب الدينية والغزوات تحت حجة ”جهاد الطلب“ أو نشر ”الدين الحق“ والملحد الذي يسوّغ الحروب الاستعمارية تحت دعاوى نشر قيم الحرية والديمقراطية والتنوير.
ومن قال أصلاً إن موجات الإلحاد نتيجة لفكر التنوير أو نظريات فرويد أو ماركس أو دارون؟! نزعات الإلحاد والعداء للدين تنمو في الكنائس والمساجد وفي دور العبادة وليس للجامعات ومراكز الأبحاث والمكتبات إلا دور ثانوي. «انظر كتاب براين ويتاكر، عرب بلا رب: الإلحاد وحرية المعتقد في الشرق الأوسط».
كتب ابن تيمية وابن حزم والكليني وغيرهم تحفّز على النزعات اللا دينية أكثر من أي خطاب آخر خارج النسق الديني. وإلا فكيف تستطيع أن تفهم ”الإلحاد العمري“ و”الإلحاد العلوي“، وكل فريق منهما على منصات التواصل الاجتماعي وفي مقالاتهم المنشورة يستعين بنصوص طائفية من كتب ابن تيمية والكافي للكليني وغيرهما لإثبات تخلف وجهل وخرافية الآخر، النظير الطائفي؟! كيف تستطيع أن تفهم تشابه نزعات ”الإلحاد العمري“ و”الإلحاد العلوي“ مع نزعات التقيؤ الطائفي المعاصر بين المؤمنين من الشيعة والسنة، إذا لم تردها إلى أصل واحد، وهو الخصومة التاريخية بين السنة والشيعة، أو قل هي بقايا رواسب سنية شيعية وعوائق إبستمولوجية وإن اتخذت من الإلحاد الجديد اسماً لها، إلا أنها لا تزال تحت سطوة القديم من طائفيات تسكن اللحم والدم؟!
إنها نزعة انتقامية من ”الأصول النقية“ ولكنها لا تزال عدواناً مزاحاً مما تبقى من الذات الطائفية إلى الآخر الخصم الطائفي. فإن لم تستطع توجيه العدائية للمؤسس وجّهها لخصومه ونظرائه وكان الله غفوراً رحيماً. ومن السخرية المضاعفة أن يقدم خطاب الطرفين، الإلحاد العمري والإلحاد العلوي، على أنه ذم ونبذ للتعصب الطائفي من منطلقات تنويرية عقلانية!
ولنعد لفولتير الذي استعان به الشيخ. فولتير كان ربوبياً تنويرياً ودعا إلى دين عقلاني أو ”دين طبيعي“ وهذا عكس مرامي الشيخ، وفولتير سخر من مفهوم الألوهية عند الكنيسة ورجال الدين، قال في ذلك: ”بأنه جائز للإنسان العاقل الشك في وجود كائن غريب الأطوار، ويجوز لشخص رقيق المشاعر أن يتخيل أن الإله الذي صنعه العديد من التعساء، هو غير موجود“ «فولتير، القاموس الفلسفي، ص155» وقال في موضع آخر ”لا أرى من المتدين الخرافي إلا مرارة واضطهاداً“ «فولتير، القاموس الفلسفي، ص160»
لا يعني هذا أننا ضد أن يوجه رجل الدين والمرجعيات الدينية نقداً للتيارات الإلحادية والعلمانية واللا دينية؛ فهذا من حقهم، كما أنه من حق الملحدين واللا دينين والعلمانيين واليساريين أن يوجهوا نقداً مضاداً أو قراءة مضادة للأديان وميثولوجيتها. لكن مشكلة الأصولي أنه يعتبر كل نقد هو إساءة وإهانة لمقدسات الأمة أو تشويش وإفساد لعقائد العامة، وهذا ما دفع الفيلسوف العربي الكِندي مثلاً لأن يكون في غاية الحذر والحيطة حينما كان يقارب عقائد خصومه وخاصة الفقهاء، فالكِندي كان يُكنّ لهم أقصى درجات الاحتقار والازدراء. في إحدى رسائله إلى تلميذه المعتصم بالله سمّاها «رسالة في الفلسفة الأولى»، يقول الكِندي: ”فحسن بنا أن نلزم في كتابنا هذا عاداتنا في جميع موضوعاتنا «...» من الانحصار عن الاتّساع في القول المحلّل لعقد العويص الملتبسة توقياً سوء تأويل كثير من المُتسمِّين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق وإن تتّوّجوا بتيجان الحقّ من غير استحقاق لضيق فطنهم عن أساليب الحق وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة...“ «الكِندي، رسالة الكِندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، ضمن رسائل الكِندي الفلسفية، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص 103»
لكن المأزق الأخلاقي لا يكمن في النقد والمساءلة الفكرية، إنما يكمن في الاستقواء بالشرع أو بالقانون في شرعنة قمع الخونة والضّالين والزنادقة. وإذا كان المؤمنين وغير المؤمنين على طرفي نقيض فيما يتعلق بمعتقداتهم؛ فلا أظن أن أحداً منهم يختلف على أهمية حرية المعتقد وحرية التعبير وحرية الضمير لسلامة المدن وعافيتها بحسب تعبير سبينوزا.
إن ظاهرة عدم التسامح مع النزعات اللا دينية ليست حديثة، فأفلاطون مثلاً، وإن لم يستشهد به الشيخ وقد يفعلها مستقبلاً، أيّد في الجزء العاشر من كتاب القانون وضع الدين تحت سلطة الدولة، ومعاقبة من يتحدثون أو يتصرفون بوقاحة مع الآلهة، وواضح ما لهذه الفكرة من تأثير على اللاهوت المسيحي والإسلامي. يقول أفلاطون: ”دع أولئك الذين غيّروا قناعاتهم، بسبب افتقارهم للفهم لا بسبب خبثٍ أو طبيعة شريرة، وليرسلهم القاضي إلى دار الإصلاح وأن يحكم عليهم بمقاساة السجن لفترة لا تقل عن خمس سنوات ليسمح لهم خلالها بالتواصل مع المواطنين الآخرين، باستثناء أعضاء المجلس الليلي، واجعل أعضاء المجلس يتناقشون مع المساجين فيما يخص تحسين صحتهم الفكرية، وعندما تنتهي فترة سجنهم يجب إعادة من تعافى فكره إلى مجتمع العقلاء، لكن في حال لم يحدث ذلك، وفي حال تمت إدانتهم مرة أخرى، يجب أن يعاقبوا بالموت“.
خمس سنوات من السجن ستعود بفرويد نفسه إلى ”مجتمع العقلاء“. أفلاطون وإن كان فيلسوفاً إلا أنه كان داعشياً بامتياز. إذ يشرح الكيفية المثلى للتعامل مع الملحد في سجنه: ”لا تدع إنساناً حراً يقترب منه «يعني المُلحد» واتركه يحصل على وجبات طعامه التي يخصصها له حراس القانون من أيدي العبيد، وعندما يموت ألقه خارجَ حدود الدولة ولا تدفنه“ «براين ويتاكر، عرب بلا رب: الإلحاد وحرية المعتقد في الشرق الأوسط. ص149».
مساهمة فرويد في التحليل النفسي للدين والتدين
خضع الدين والتدين إلى دراسات مكثفة في مجال علم النفس، ولكن اهتمام عِلمَيّ النفس والاجتماع بظواهر الإلحاد أو اللا أدرية والتحول من دين إلى دين آخر حديثٌ نسبياً.
يرى ريتشارد تارناس في كتابه «آلام العقل الغربي: فهم الأفكار التي قامت بصياغة نظرتنا إلى العالم»، أن التقدم في القرن الثامن عشر، سواء ”بصيغة ربوبية فولتير المعادية للكهنوت، أو في نزعة الشك العقلانية لدى ديدرو، وعلى شكل تجريبية هيوم اللا أدرية، وفي نزعة هولباخ الإلحادية المادية، أو في إطار الصوفية والتدين العاطفي عند روسو، دُفع نحو الحطّ من شأن المسيحية التقليدية“. ثم ظهر ماركس في القرن التاسع عشر الذي لم يرَ في الدين وجميع الصيغ الثقافية إلا انعكاساً لدوافع مادية، أي لآليات الصراع الطبقي. وقد لاحظ ماركس أن الكنائس يندر أن تكون مهتمة بمعاناة الكادحين أو الفقراء. فالدور الأساسي للدين بدا لماركس هو خدمة مصالح الطبقة الحاكمة ضد الجماهير مقابل الأمان الزائف الذي توفره العناية الإلهية والوعد بحياة هنيئة خالدة. وحينما أعلن نيتشه ”موت الإله“ و”أفول الأصنام“ ألقى بظله على ”المزاج الوجودي للقرن العشرين“.
لكن بعد أن وضع فرويد إطاراً نظرياً للا شعور أو اللا وعي ونزوع النفس إلى حِيل الإسقاط أخذ الدين بُعداً جديداً من التحليل النظري. تأثر فرويد بمدرسة فيينا الطبية التي أرجعت أعراض الأمراض النفسية إلى الطبيعة البيولوجية للإنسان. ومن يريد ”فهم التركيبة المعقدة لللا وعي من ناحية جسمانية فعليه أن يطور تحليلاً نفسياً مطابقاً لها“ بتعبير فرويد.
في تحليله للسلوك الديني لاحظ فرويد التشابه بين الأفعال التسلطية أو الممارسات القسرية غير الدينية والطقوس الدينية التي يؤدّيها المؤمنون. وأطلق على هذه الأعراض مصطلح ”الوسواس القهري“ الذي تحرّضه تصوّرات ودوافع قسرية لا يسع المريض سوى الانصياع لها ويبدو أنه عاجز عن تركها أو تجاهلها.
هذه المبالغة الطقوسية والخوف من تركها يدللان على ”قدسية“ الممارسة، ولذا يمكن تفهم دوافع الخوف من تركها أو القيام بأمر مناقض لها لما يترتب على ذلك أحياناً عواقب في الدنيا والآخرة. ولاحظ فرويد أيضاً أن كثيراً من المؤمنين ليسوا ملتزمين بالمعنى الحرفي لمتطلبات الدين. وإنما الخوف من تهديدات الدين والمجتمع يرغمهم على التظاهر والخضوع للقيم السائدة. وسرعان ما ينسلخون عن الدين حينما تتاح لهم الفرصة خاصة عندما تزول الكوابح الاجتماعية. أما التشابه بين السلوك العصابي والممارسات الدينية فإن فرويد يزعم أنه ”من السهل رؤية موضع التشابه بين الطقس العصابي والممارسات القدسية للشعيرة الدينية الذي يتمثل بتأنيب الضمير أثناء تركها ودقة الأداء لجميع التفاصيل الصغيرة. لكن هناك فرقاً وهو أن المكونات الصغيرة للطقس الديني تكون ذات مغزى ودلالة رمزية، بينما تبدو المكونات العصابية ساذجة وبلا معنى“. وعلى عكس ما هو شائع عن فرويد إلا أنه لم يدَّعِ تقديم تفسير شامل لمجمل الظاهرة الدينية في أيٍّ من كتبه، يقول: ”كان اهتمامي بالمصادر العميقة للإحساس الديني أقل بكثير من اهتمامي بما يتصوره الإنسان العادي عندما يتحدث عن دينه، وعن هذا النسق من المذاهب والوعود التي تدّعي، من جهة، تفسير كل ألغاز هذا العالم تفسيراً كاملاً ومرغوباً فيه، وتطمئنه، من جهة أخرى، بأن ثمة عناية إلهية تسهر على حياته وستعمل في الآخرة على تعويضه عن الحرمان الذي يعانيه على هذه الأرض“.
ورغم ذلك مال فرويد إلى الاعتقاد أن الدين ليس إلا ذلك الملجأ لكل الرغبات المقموعة في الفرد، من كره أو غيرة، أو نزعة إلى الاضطهاد والتدمير. ودور الكنيسة هو المساعدة في تحويل تلك الرغبات العدوانية إلى أعداء الجماعة الدينية. يقول فرويد: ”بداهة قدّم الدين خدمات عظيمة للحضارة، وساهم إلى حد كبير بكبح الغرائز اللا اجتماعية، ولكنه لم يتمكن من الذهاب بعيداً في هذا الاتجاه. حكم المجتمعات طيلة آلاف السنين، وكان عنده ما يكفيه من الوقت ليظهر ما كان قادراً على إنجازه. ولو أنه نجح في جعل غالبية الناس سعداء، وبمؤاساتهم، وبمصالحتهم مع الحياة، وبجعلهم دعائم للحضارة، لما خطر على بال أحد الطموح بتغيير حالة الأمور الراهنة...“
أما الإنسان سواءً كان متديناً أو غير متدين فلا يكون نفسه إلا في أكثر لحظاته طفولية ولا عقلانية، فالإنسان الواعي ليس إلا ظاهرة ثانوية سريعة العطب. فالمنبع الحقيقي لجملة الدوافع البشرية ليس إلا ”مرجلاً يغلي من الغرائز الحيوانية، اللا عقلانية“. لم يشكك فرويد في ألوهية الإنسان فحسب، إنما حتى في إنسانيته. كان فرويد نخبوياً؛ ولذلك كانت له نظرة ازدرائية لـ ”الفئات الاجتماعية المتخلفة“ لا تختلف عن نظرة الفلاسفة عادة لما يسمى بالعامة أو الدهماء. على الرغم من ذلك، آمن فرويد، وهذا الذي يعنيننا هنا، أن التطور الثقافي أو تشجيع الثقافة من شأنه أن يخفف من وطأة النزعات اللا عقلانية أو الغريزية. بعبارة أخرى: الممارسات الفكرية والثقافية هي تسامٍ للغرائز الحيوانية.
علم النفس الحديث وظاهرة الإلحاد
يُعدّ أستاذ علم النفس التطوري ويل جيرفايس من أهم الباحثين في الإلحاد وأسباب انتشاره بين الشباب في أمريكا. وفي دراستين أوليتين جمع جيرفايس بيانات تشير إلى أن العدد الحقيقي للملحدين في أمريكا قد يصل إلى 26%، أي أكثر من ضعف العدد الذي تم رصده في استطلاعات غالوب.
حقق جيرفايس فيما إذا كانت الأنماط المعرفية الفردية «التحليلية مقابل الحدس» أو القدرة العقلية «القدرة على التأمل وفهم الحالة العقلية الذاتية للمرء، كتوجيه نظرة ثاقبة لما يشعر به المرء إزاء أمر ما» تدفع نحو عدم الإيمان. وانتهى جيرفايس إلى أن العوامل المعرفية تلعب دوراً ثانوياً مقارنة بالعوامل الثقافية والاجتماعية وعدم الرضا الفردي عن أفكار ورموز وممارسات دينية محددة في بيئاتهم الاجتماعية. وتشير الأبحاث التي أجريت في الولايات المتحدة إلى أن البيئة الدينية تلعب دوراً أساسياً في تشكيل هوية الملحد. فمن بين أربعين أمريكياً أجريت معهم مقابلة للدراسة، تبيّن أن خمسة وثلاثين شخصًا منهم تمت تنشئتهم في بيئة تراوحت بين متدينة إلى حد ما، وأخرى متشددة.
ويُعرف الإلحاد بأنه غياب الإيمان بوجود الله أو الاعتقاد ببشرية المفهوم التوحيدي الكلاسيكي لله. في حين أن العلمانيين وغير المتدينين يظهرون درجات متفاوتة من عدم الإيمان والالتزام، إلا أن كثيراً منهم يعتبرون أنفسهم ضد المفهوم الكلاسيكي السائد للألوهية وما يترتب على هذا المفهوم من متطلبات دينية واعتقادية أو تبني هوية غير دينية قد تتخذ هيئة الإلحاد أو اللا أدرية من أجل رؤية علمانية للعالم.
يرى أستاذ علم النفس الاجتماعي جيسي سميث في جامعة ويسترن ميشيغان، في بحثه ”أن تصبح ملحداً في أمريكا: بناء الهوية والمعنى من خلال رفض التوحيد“ أن الملحدين يشكلون هويتهم بناءً على رفض الاعتقاد المعياري دينياً بالله أو مفهوم التوحيد الديني وما يتصل بهذا المفهوم من أدوار اجتماعية ينخرط فيها عادة المؤمنون والمؤمنات كارتياد المساجد والكنائس ودور العبادة والأنشطة والفعاليات الاجتماعية المرتبطة بالدين المنظم. وهكذا يتخذ الإلحاد طابعاً شخصياً أو ”سيرة ذاتية“ حسب تعبير سميث، تتعارض مع هوية الجماعة.
وذكر مثلاً الطلاب الذين خضعوا لهذه الدراسة أنهم أصبحوا ملحدين بعد تنشئة دينية صارمة وعزوا تحولهم إلى الإلحاد بسبب شكوكهم حول صدق القصص الواردة في الكتاب المقدس وتعارضها مع العلم، في حين اعتبر بعضهم أن القراءة في التاريخ الديني والعلوم الحديثة كان محفزاً على فقدان الإيمان تدريجياً. بالإضافة إلى ذلك، أظهر بحث دينار بوبر حول ”فقدان الإيمان“ أن كثيراً من الملحدين الجدد ذكروا أن من أهم محرضات فقدان الإيمان كان بسبب التناقض بين وجهات النظر الدينية والعلمانية حول قضايا المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة والأقليات والسلوك اللا أخلاقي لبعض الشخصيات الدينية. قد يصاب المتدين بخيبة أمل من رجال الدين والخطاب الديني السائد ولكنه لا يزال يؤمن بالله. وفي دراسة رائدة لدانيال دينيت ولاسكولا حول ظاهرة رجال الدين والكهّان والحاخامات الذين يظهرون في العلن ما يتعارض مع خطاباتهم في السر وفي المقابلات السرية بعد أن فقدوا إيمانهم فيما يعظون به علانية، وكيف أدّت بهم الدراسة في الشؤون الدينية والمقاربات التاريخية والنقدية إلى حقيقة معادية لمعتقداتهم ووظيفتهم المزعومة كحلقة وصل بين المؤمنين والكتب المقدسة. هذه الدراسة شديدة الأهمية لأنها تتعامل مع حالات من داخل المؤسسات الدينية، وبعضهم لا يزال منخرطاً في نشاط وعظي رغم فقدان الإيمان الديني، وقد أشار أحدهم أنه بدأ يشعر بالنفاق حول العمل الذي يقوم به ولكن على الرغم من ذلك لم يستقل من وظيفته. تستطيع أن تلاحظ أيضاً أن مجمل الفقهاء والمشايخ المسلمين يعيرون اهتماماً خاصاً لرأس مالهم: الجمهور أو العامة بدرجات متفاوتة. فالخوف من الجمهور قد يحول بينهم والإفصاح عن بعض الآراء العقدية التي تمس عقائد ”العوام“. ولا أعني أنهم تحولوا إلى ”الإلحاد“ لكن ممالأة الجمهور الديني ومحاولة إرضاء الرأي العام تحول بلا شك دون مقاربة بعض المواضيع الحساسة التي قد لا يؤمن بها الفقهاء أنفسهم.
ستيفن ريس، أستاذ في علم النفس في جامعة أوهايو، يعتقد أن الخوف من الموت ليس سبباً كافياً لانجذاب الناس نحو الدين، ولكن بسبب قدرة الدين على إشباع رغبات المؤمنين الأساسية. ويزعم ريس أننا جميعاً لدينا الأهداف نفسها ولا نختلف إلا في تقديرنا لكل هدف. الرغبة في التواصل الاجتماعي مثلاً؛ يجذب الدين الانطوائيين والاجتماعيين على حد سواء، من خلال المهرجانات والكرنفالات والأنشطة الروحية، في حين أنه يجذب الانطوائيين من خلال تشجيع الخلوات الخاصة والتأمل في ملكوت الله. إن الدين يشبع رغبة الأشخاص في الانتقام من خلال غضب الله على أعدائه والحروب المقدسة. فالدين يجذب كل الأنواع؛ سواء من يريد السلام والطمأنينة أو من يشتهي الموت وشلالات الدم. ولكن ماذا عن المجتمع العلماني الذي يقدّم بدائل إشباعية لجميع الرغبات الأساسية؟! ريس يعتقد أنه كلما تعلمن المجتمع؛ كلما فقد الدين شعبيته، أو على أقل تقدير يتعلمن الدين في المجتمع العلماني، أي أن يصبح شأناً خاصاً.
ينبغي أن لا ننسى أن الأنا الأعلى في أي مجتمع له دور بارز في التأثير على معتقداتنا الدينية وغير الدينية، مثلاً حينما ينظر للتدين في مجتمع معين على أنه علامة إيجابية أو ”الحق“ في قبالة الباطل فمن المتوقع أن يكون التدين سائداً في هذا المجتمع والعكس أيضاً صحيح هنا. وقد أظهرت استطلاعات غالوب أن 99% من المصريين يعتقدون أن الدين يشكل جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية مقارنة ب 66 % من الأمريكيين و16 % من السويديين. وأهمية هذه الاستطلاعات تكمن في كونها تكشف أننا قد نبالغ أحياناً في الادعاء بأننا أخضعنا معتقداتنا إلى مساءلة عقلانية صارمة في حين أننا نتجاهل أثر الأسرة والمجتمع والثقافة العامة والآخر أيضاً في تشكيل معتقداتنا الفردية والجماعية. وعلى الأرجح سيكون لنا رأي آخر لو ولدنا في السويد أو الصين.