قراءة في تاريخ تطور عمارة المساجد
رحلة تبدأ من المسجد النبوي بتواضعه التصميمي والوظيفي، مروراً بقبة الصخرة التي شكلّت النقطة المفصلية في تطور العمارة الإسلامية، فجامع قرطبة في الأندلس وطرازه التجديدي الصارخ الذي طال حتى نظامه الانشائي، وانتهاءً بجامع الشيخ زايد بدولة الإمارات بالعام 2007، رحلة مرت بانعطافات وتجديدات وتغيرات سياسية واقتصادية عصفت بالعالم الإسلامي فطالت كل ما امكنها أن تطوله، ثقافيا كان أم فكريا أم علمياً، وللعمارة وتطورها نصيب متباين في ظل هذه الرحلة، فغيرت المسجد بمفهومه وصورته في الأذهان، ولم تكتف بذلك فطالت حتى وظائفه وساهمت في تنوعها وتعددها.
تمر العمارة في رحلة تطورها وتقبل المجتمع لها وكغيرها من كل الأفكار الحداثية والتجديدية بعدة مراحل تسمى ”التثاقف acculturation“ فتكون بدايةً محط رفض ومقاومة من المجتمع، وبسبب عدد من العوامل الخارجية تتحول عملية ”المقاومة“ لمرحلة إعادة النظر يليها مرحلة التبني، فمرحلة التعايش مع هذا التجديد، فنذكر مثلا قصة المنبر في المسجد الاسلامي الذي كان في البدء محط رفض شديد من الخليفة عمر بن الخطاب حين بعث له الصحابي عمرو بن العاص رغبته في انشاء جامعه المشهور «جامع عمرو بن العاص» بالقاهرة في بدايات الدولة الاسلامية، حيث أمره الخليفة آنذاك بأهمية ازالة المنبر، اعتقادا منه بأنه وسيلة للتعالي والترفع بين الخطيب وعوام المصلين، فلم تكن المساجد بحاجة آنذاك للمنبر بناء على مساحات المسجد الصغيرة واعداد المصلين وقدرتهم على سماع ورؤية الخطيب، فنرى هنا مرحلة الرفض بوضوح شديد، توسعت بعدها رقعة الدولة الاسلامية، زادت اعداد المصلين ومساحات المساجد، مما أعاد بالضرورة وجود المنبر «مرحلة اعادة النظر» وظهر مجدداً فتعايش معه الخلفاء والعوام بناءّ على حاجتهم له وهنا تكمن مرحلة التبني، حتى بات المنبر اليوم جزء أساسيا من مكونات المسجد «مرحلة التعايش».
مراحل التثاقف الأربعة ذاتها تنطبق على وظيفة المسجد كمقر لاقامة الصلوات، فقد بدأ المسجد النبوي بسيطا جدا في ملامحه، حيث تكوّن من فناء مكشوف في معظمه، ومغطى بالقش والحصير في مقدمته التي توجهت نحو القبلة، بلا ميضأة ولا محراب أو مأذن أو قبب، مما جعله محدد الوظيفة التي أقتصرت فقط على اقامة الصلوات، مبسطا من كل مالا حاجة له «مرحلة الرفض»، الا أن هذه البساطة لم تدم طويلا بسبب سرعة توسع الدولة الاسلامية وسرعة ازدهارها الاقتصادي وحاجتها لمعالم ومراكز ثقافيد ودينية تصور امجادها وقوتها «مرحلة اعادة النظر» حافظ المسجد فيها على وظيفته كمقر لاقامة الصلوات لكنه شهد تغيرات ملحوظة في مكوناته وعوامله.. ظهرت فيها المأذن والمحاريب والمنابر والقبب وغرف الميضاء بل وحتى الفراغات تنوعت بين مساحات داخلية وافنية خارجية كما هو الحال في ”المسجد الأموي بدمشق“ وغالبية المساجد الأموية والعباسية، حتى قرر الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بناء ”قبة الصخرة“ لتكون صرحا أسلاميا ذو تأثير وتغيير جذري في صورة وفكر المساجد، بدء بشكلها الجيوميتري المضلع الذي لم يكن سائدا اطلاقا، مبينا عظمة قدرات المسلمين في تعاملهم مع هندسة الاشكال من جانب، والقوة الاقتصادية الجبارة للدولة الأسلامية، والأهم في كل ذلك هو التغير الجذري في وظائف المسجد، فلم تكن ”قبة صخرة“ مقرا لأقامة الصلاة اطلاقا، بل كانت صرحا تذكاريا يحتضن داخله الصخرة التي عرج منها الرسول نحو السماء، فكانت نقطة انطلاق جذري نحو تنوع وظائف المسجد والأنتقال به كرمز شامخ للدولة «مرحلة التبني»، لتشهد الدولة الاسلامية بعد ذاك تنوعا كبيرا في وظائف المساجد بين اقامة الصلوات، والصروح التذكارية والاضرحة - كقبة الصخرة ولاحقا تاج محل بالهند - وجوامع الدولة التي تهافت الخلفاء على بنائها لتخليد ذكراهم، ثم تنتقل الرحلة الى ماهو ابعد من ذلك، النظم الانشائية الفريدة التي حاول العمارة الاسلامية ابتكارها، كالنظام المميز الذي صمم بعهد الخليفة عبدالرحمن الداخل لبناء ”جامع قرطبة“ بالاندلس على أنقاض كاتدرائية رومانية قديمة، وبرز فيه التأثر الأسلامي بالعمارة الرومانية وخصوصا انظمتها الانشائية المتمثلة في الأقواس والأعمدة الرومانية «مرحلة التعايش».
ترتبط العمارة بمفوهمين مترابطان لايمكن فصلهما، ”الوظيفة“ و”الشكل“، والحديث عن الوظيفة وحدها أو الشكل وحده لفهم تقدم وتطور العمارة ليس كافيا أطلاقا للأجابة عن التساؤلات، مما يجبر رحلتنا على دراسة الشكل والجمالية في عمارة المساجد كما قمنا بدراسة الوظيفة، أعتقد بأن مفهوم ”التثاقف“ ليس كافيا للاجابة عن اسئلتنا المتعلقة بالجماليات، والوسيلة المثلى لدراسة الجمال في العمارة الاسلامية يكون من خلال تحليل كل من ”الموارد resources“ و”الكيفيات knowhow“ فالموارد هي الامكانيات التي تستخدمها الحضارات والمجتمعات لبناء انفسهما، بينما الكيفيات هي طريقة توظيف وتجسيد تلك الموارد للانتقال بها لمنتج يتفاعل معه الإنسان.
تعنى الموارد دائما وتتأثر بقوة الأقتصاد والتنوع، مما يعني أنه كل ماتوسعت الدولة وانفتحت على العالم، تقدمت مواردها اكثر واكثر لتأثر ايجابيا على الكيفيات والنواتج، ولاتقتصر هذه الموارد على المادة فحسب انما هي مرهونة كذلك بالصورة الثقافية والفنية التي تبنى من خلالها الحضارة، وكجميع الحضارات في التاريخ، بدأت الحضارة الأسلامية بسيطة ومتواضعة، في المساحة والاقتصاد والثقافة، مما أدى الى تواضع الكيفيات ايضا، فلم تنعكس هذه الكيفيات والجماليات بشكل واضح على اوائل المساجد في الاسلام - كالمسجد النبوي ومسجد قباء - التي كانت متواضعة جدا في انشائها وبنائها الطيني، ولكن حالما انتقلت الدولة الاسلامية لنطاقها الأوسع، فضمت بلاد الشام وبغداد والقاهرة، تغيرت المعادلة كليا، نظرا لمستوى الثقافة والتعليم والفن المتقدمين جدا في تلك الأقطار، فماذا استوردت الحضارة الاسلامية لتنتقل بكيفياتها الجمالية واالتصميمية؟
بالإضافة للتنوع في مواد البناء كالحجر والرخام والخشب الذي تم ضمه للعمارة الاسلامية، كانت بغداد آنذاك في ذروة إمكانياتها الهندسية في علوم الحساب والرياضيات والجيومتري، لتضع أهم علامات الفن الاسلامي المبكر، كالزخرفيات الهندسية الدقيقة والشغف بالدوائر وتكوينها وعلاقاتها مع غيرها من الأشكال، والنجوم الهندسية ثمانية، اثناعشرية وثماني عشرية الزوايا، وبالاضافة الى ذلك فن الخط..! برع المسلمون بمخطوطاتهم وحروفياتهم حتى انتقلوا بالكتابة الى مساحة جديدة غير مسبوقة، وهو تحويل الكلمة الى فن متناسق وجمالي، تمكن أوائل المسلمين من الهندسة ثلاثية الأبعاد التي تعنى بتصاميم مباني جيومترية مميزة ودقيقة، وتمكنهم من تحويل الهندسة ثنائية الابعاد ألى فن زخرفي حصري اكتست فيه المباني، وخط الثلث الذي زين المداخل والمحاريب والجدران الداخلية والقبب، كانت أبرز الكيفيات الجمالية التي ارتقت بالعمارة الاسلامية ونهضت بها لتكون قائمة بذاتها.
استمرت الدولة الاسلامية بالتوسع، فتجاوزت البحار حتى وصلت الى نطاق جديد كليا، الأندلس - اوروبا!
التي كانت كذلك في اوج نهوضها المعماري المتأثر بالحضارة الرومانية، جماليا وانشائيا.. مما فتح الباب على مصرعيه للاستمرار في عملية الاستيراد الثقافي والفني، فمع استمرار الزخارف الاسلامية وخط الثلث في اكساء المباني، طورت الأندلس فنونا زخرفية جديدة كفن ”التوريق“ المبني على رسم زخارف مستوحاة من أشكال أوراق الاشجار والنباتات الطبيعية التي تزدهر بها اوروبا، فاحتضنت العمارة الاسلامية ذلك الفن وغطت به مبانيها ومساجدها، وأبرز ماحظيت به العمارة الاسلامية في الأندلس هو قربها الشديد من الحضارة الرومانية التي ساهمت في تطور مفاهيم العمارة بطريقة لا يمكن تجاهلها بتاتا، فاستوردت التجربة المعمارية الاسلامية من العمارة الرومانية أنظمتها الانشائية، أقواسا وأعمدة، بل أنها قامت بتطويرها وتجديدها أيضا، حيث قامت بتصميم أعمدة انشائية أكثر رشاقة ونحافة من سابقتها الرومانية، وتطورت الأقواس الانشائية بطريقة جمالية فزادادت أنواع الأقواس من ستة أنواع الى تسعة انواع: العادية، البيضاوية، وحذوة الفرس، والمنتفخة، والمروسة، والمسننة، والمقرنصة، والمتداخلة، والمتعانقة كذلك أهتمت العمارة الاسلامية في الأندلس بمبدأ البساطة الشديدة من الخارج وكثرة الزخارف والتفاصيل من الداخل.
المقصد من ذكر رحلة الوظيفة والجماليات في عمارة المساجد هو أهمية توسيع مدارك رؤيتنا للمسجد، فعلا كان المسجد في البدء هو مقر لاقامة الصلوات، الا أنه تحول لاحقا للتعددية وظائفه، نظرا لأهميته كرمز اسلامي، كما لجئت المسيحية في وقت ذروتها الاقتصادية - العصر القوطي - لتصوير قوتها وهيمنتها الاقتصادية من خلال الكاتدرائيات الضخمة والتي كانت تمثل ”ناطحات سحب“ آنذاك، وتسابقت المدن الأوروبية واحدة تل والاخرى في بناء مراكز دينية ثقافية مميزة معماريا ولاتزال قائمة حتى اليوم، احتاج المسلمين كسر جمود وظيفة المسجد وتحويله لرمز ثقافي واقتصادي وسياسي، ولم تزل الرحلة مستمرة حتى اليوم في دولنا الأسلامية الحديثة، حيث تلجئ كل دولة لبناء جامعها الأكبر كمرأة عاكسة لمدى قوة الدولة.. المسجد هو تجسيد الثقافة من خلال العمارة، وليس مجرد مصلى.