آخر تحديث: 5 / 12 / 2024م - 12:40 ص

دور البيئة الأسرية في تشجيع الميول القرائية لدى الأبناء

ابراهيم الزاكي

كثيرون هم الذين خلدهم التاريخ، ويتحدث عن إنجازاتهم ومآثرهم بإعجاب وإكبار. كما يذكرهم الناس باحترام وإجلال، كونهم استطاعوا أن يحققوا أشياء في حياتهم، وفي حياة الآخرين من حولهم، كانت قبل ذلك خيالاً في الأذهان، أو وهماً من الأوهام.

هؤلاء الذين مازالت آثارهم ومآثرهم ممتد الأثر والتأثير حتى يومنا هذا كانوا، قبل أن يصبحوا على ما هم عليه، من محبي العلم والمعرفة والثقافة، أو بمعنى آخر، هم من محبي القراءة، أي قراءة الكتب، كونها العامل الأساس الذي شكل شخصياتهم ووعيهم الإنساني، وأوصلهم إلى ما انتهوا إليه من مجد ورفعة وخلود. وهذا دليل على أن قراءة الكتب كان لها دور في تغيير حياة الأفراد والمجتمعات، والمساهمة في التقدم الحضاري للبشرية.

لذلك علينا ألا نقلل من قيمة قراءة الكتب، لما لها من أثر وتأثير على حياة الفرد. إذ أن ”تصور الإنسان للحياة، وتشكيل شخصيته، يعتمدان على عوامل كثيرة، ومن ضمنها الكتب التي قرأها. كما أن كلمات المؤلفين الكبار يمكن أن تغير وجهة نظر الشخص حتى إلى الأشياء البسيطة والمألوفة. والكتاب مصدر لا ينضب للمعرفة وللانطباعات الجديدة غير المتوقعة، وتُعمِّق إدراكنا وفهمنا للعالم الذي نعيش فيه، وتصقل ذائقتنا الجمالية، وترسخ القيم الأخلاقية في ذواتنا. فالتطلع إلى التغيير نحو الأفضل هو الذي يدفعنا لقراءة الكتب، وإذا لم نكن نؤمن بالتغيير لَما كنا خسرنا الوقت والجهد والمال في اقتناء الكتب وقراءتها أو كتابتها“. [1] 

كم هم هؤلاء الذين تحدثوا عن أثر وتأثير القراءة الكبير في حياتهم، وأنها السبب الرئيسي في تحولاتهم، حيث كانت الكتب بالنسبة لهم مصدر إلهام، وساهمت في تشكيل وصياغة شخصياتهم ورؤاهم، وغدتهم بالأفكار، ووسعت مخيلتهم، وصقلت مواهبهم، وشحنت نفوسهم بالطاقة الروحية، وبثت فيهم روح الحماس، ونمَّت فيهم جذور الإبداع، وحفزتهم على العمل والاجتهاد، وأنها كانت السبب فيما وصلوا إليه من مجد ومكانة. وكل ذلك يعود الفضل فيه إلى مكتبة البيت العائلية، والتي كانت المنطلق لعشق القراءة وإدمانها.

إنه لمما لا شك فيه بأن بذور عادة القراءة وعشقها يبدأ من البيت، خصوصاً البيت الذي تتوفر فيه مكتبة. إذ يمكن أن تبدأ القراءة كهواية من خلال قراءة القصص والحكايات ومجلات الأطفال، ثم تنمو مع الوقت وتتحول إلى علاقة حميمية يصعب الفكاك منها، أو استبدالها بهواية أخرى، أو التفريط بها، بعد أن تكون النفس قد تعلقت بها. لذلك حين يتعود الطفل على القراءة منذ بواكير سِنِّه فسوف تتكوّن وتتأسس وتتأصل في كينونته هذه العادة، وتنعكس علية في سلوكه وثقافته وأخلاقه.

ومن هذا المنطلق تأتي أهمية إعطاء الطفل وثقافته وآدابه ومعارفه أولويات أساسية منذ بواكير سنه، فالبيئة التي يعايشها الطفل في سنواته الأولى، تؤسس وتؤصل في نفسه وعقله مجموعة دروس وقيم تبقى معه مدى حياته. لذلك على الأسرة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية توجيه أبنائها ثقافياً وتربوياً وتعليمياً على أسس صلبة وسليمة وراقية، وتعمل على تأصل عادة القراءة في نفوسهم، لأنها بذلك تساهم في تشكيل وصياغة شخصياتهم المستقبلية. ففي السنوات الأولى من عمر الطفل يسهل توجيه بوصلته القرائية. والمؤكد أن الكثير مما سوف يقرأه سيعلق في ذاكرته.

لا شك بأن "أكثر القراءات رسوخاً في ذاكرة الإنسان، وبخاصة عندما يتقدم في العمر هي قراءات السنوات الأولى من عمره، من السادسة تحديداً، حيث عام دخول المدرسة النظامية الابتدائية فما فوق، حتى أواخر المرحلة الإعدادية. ففي هذه السنوات البكرية يقرأ الطفل ويكتشف، ويتعلم، ويتخيّل، ويفكر، ويعرف أن العالم لا ينتهي عند حدود قريته، أو عند مغيب الشمس، بل هناك عالم وجغرافيات ومدن، وهناك حَيَوات وشعوب وألوان وأصوات مختلفة عن المحيط اللوني والصوتي والمادّي الذي يتّحرك فيه الطفل.

إن هذه السنوات الأولى التي يبدأ فيها الطفل القراءة، ومع الوقت تصبح عادة بالنسبة إليه، وهي السنوات الذهبية لطفل محظوظ يُتاح له أن يقرأ من خلال بيئته العائلية. وهو محظوظ أكثر وأكثر إذا كانت عائلته تمتلك مكتبة، حيث من هنا، ومن المكتبة بالذات، يبدأ التكوين الحقيقي لشخصية الطفل الثقافية. وإذا عدنا إلى الكثير من الحوارات المعمّقة مع كبار الكتّاب في العالم نلاحظ أن هؤلاء يتحدثون عن قراءاتهم الأولى، أو قراءاتهم المبكرة من السادسة وحتى العشرين من أعمارهم بشغف كبير، وبخاصة عندما يتحدثون عن الكتب التي قرأوها في مكتبات آبائهم وما تركت هذه الكتب في ذاكرتهم من أثر لا يُنسى، وهو الأثر الذي جعل منهم كتاباً كباراً، بعد أن كانوا قراءً في طفولاتهم الأولى". [2] 

وكما هو معروف أن الأبناء الصغار عادة ما يحاكون البيئة الأسرية التي يعيشون فيها، ويقلدون آبائهم ويحدون حدوهم. فالطفل الذي ينمو في بيت به مكتبة، ويجد والديه يتصفحون الكتب ويقرؤونها، يختلف عن الطفل الذي ينشأ في بيت يجد والديه يقضون أغلب أوقاتهم في مشاهدة التلفزيون، أو أمام شاشات الأجهزة الجوالة، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ويتركون أطفالهم يقضون أوقاتهم أمام التلفزيون، أو يلهونهم بشراء الأجهزة الإلكترونية. لذا من الطبيعي في مثل هكذا أجواء أن يقلد الأطفال الممارسات والعادات التي يشاهدونها داخل المنزل.

وإذا كانت بعض الأسر تعاملت مع الأجهزة التكنلوجية بشكل إيجابي، ونجحت في منع أبنائها من الانسياق وراء أهوائهم، والاستسلام لمغريات تكنولوجيا العصر، ومهدوا الطريق لأبنائهم لاستكشاف ملكاتهم، وتنمية مهاراتهم وما يملكون من قدرات، وعززوا فيهم الميول القرائية منذ وقت مبكر، غير أن البعض الآخر من الأسر، وهم الأغلبية كما يبدو للأسف، تعاملت مع الأجهزة التكنلوجية بشكل سلبي، وتركت أبنائها يسرحون ويمرحون مع التكنلوجيا الحديثة من دون مراقبة وتوجيه، وهو الأمر الذي غالباً ما يؤدي إلى سرقة أعمارهم، وقتل براءة الطفولة في نفوسهم مع مرور الوقت.


[1]  كتب غيرت العالم. محمد الحمزة. جريدة الرياض. 18/04/2019



[2]  مهرجان الشارقة القرائي للطفل. يوسف أبو لوز. جريدة الخليج الإماراتية. 21/04/2019