المجتمعات الكوشوتية
المجتمعات التي تسودها ثقافة ما، يبرز ذلك على أفرادها، حيث يعيش الفرد منها ويسعى لكي يكون جزءا من تلك الثقافة، وله باع كبير في تنميتها والولاء لها. فإن كانت إيجابية فإن ذلك ينطبع على سلوكه وتحصيله المعرفي والثقافي، وعلى العكس إذا كانت سلبية حيث تتحول تلك الثقافة إلى حالة من الانحدار والسلب. تلك الثقافة تكون حاضرة في تفكير الفرد، ويبذل ما في وسعه ليتشرب منها كل ذلك لكي يكون شيئا مذكورا في مجتمعه. ليس الاغلب الأعم لكن تكون تلك الحالة بارزة عند من يعيش حالة من النقص كما جاء في قصة دون كيشوت.
يروي سرفانتس إن دون كيشوت كان يعيش في أسبانيا قبل ثلاثمائة وخمسين عاما، وكان المجتمع الاسباني مولع في ذلك الحين بقصص الفرسان والمغامرات البطولية، لرجال يلبسون الحديد ويبارزون الخصوم، ويدافعون عن المرأة والضعيف.
وقد أصبح الفرسان محل الأنظار لكل من أراد أن يكون مشهورا في مجتمع، يتلبس بتلك الشخصية ويسعى لكي يكون ضمن الفرسان المعروفين في زمانه. كيشوت قرأ الكثير عن أولئك الفرسان وكثيرا ما يتمثلهم في مخيلته وأحلامه، إذ يحلم بأن يكون مثلهم، وقد رسخت تلك الفكرة في رأسه، وخرج بسيفه ودرعه إلى البراري لكي يقوم بالأعمال الكبيرة، مثل الفرسان البواسل.
كان كيشوت هزيلا ضعيف القدرة، وكذلك حصانه مثله ودرعه باليا، لكن لم يمنعه ذلك من المجازفة، فقد خرج إلى الناس يتحداهم لكي يبارزونه، فصار يتخيل أي صوت قادم هو المعركة، ويتصور كل ظاهرة بما يشتهي وهو فرح بما أتاه الله من قوة وبأس، وظن أن الناس يلهجون بذكره وبمفاخره، بينما كانت الناس تضحك عليه من حيث لا يعلم.
يحصل مثل ما حصل لكيشوت لبعض الأفراد في أي مجتمع، وذلك بأن يكثر مفاخرته بنفسه ويكون حديثه البطولي بما يناسب ميول المجتمع وثقافته. لذلك؛ تجده عندما يدخل محفلا من محافل مجتمعه، يتصور بأن كل الحاضرين موجهين الأنظار له ويلهجون ما يقوم به من بطولات، قد يكون ذلك صحيح لكن ليس بالمستوى الذي يعتقده في نفسه، بل العكس في بعض الأحيان فإن الناس يضحكون عليه إذا كان في كلامه بعض المبالغات.
كما يحصل ذلك للجماعات التي تكثر فيها الروايات التي تمجد تاريخها المبالغ فيه، تلك هي التي يراد منها أن تحافظ على كيان تلك الجماعة. لذلك؛ تبرز فيها الحالة الكوشوتية التي ترى بأنها الفرقة الناجية، أو الأفضل عند الله أو عالية المستوى من العطاءات والعلوم، إلا ان ذلك كله غير حقيقي. وقد يكون فيه قليل من الصحة، لكن الامر ليس بالمستوى الذي تصوره تلك الجماعة.
إذن، الكوشوتية حالة متفشية في الافراد والجماعات نتيجة لضخ الثقافات المختلفة التي يزداد فيها التمجيد بشكل سلبي يشعر منه أنه غير حقيقي ومبالغ فيه، لينتاب الطرف المقابل إحساس بأن الأمر مضحك وغير واقعي.