آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

مجالس الذكر في القطيف

قراءة القرآن في شهر رمضان المبارك نموذجًا

سعيد المطرود

يمرُّ علينا شهر رمضان المبارك، حاملًا بين طياته الخيرات والمسرات، فيه تفتحُ السماء أبوابها للداعين المستغفرين، وتحثهم على تصحيح مسار سلوكهم وتصرفاتهم، وتدعوهم لعدم اليأس والقنوط.

فهو بحقّ فرصة ذهبية، لينالَ العبدُ الصفح والمغفرة والتوبة والقبول ورضا الله.

والأدعية الرمضانية المأثورة عن الرسول ﷺ، وأهل بيته ، تزخر بالقيم الاجتماعية المهمة، التي هي من أبرز أهداف شهر رمضان المبارك، الذي يسعى جاهدًا لزرعها وترسيخها في نفوس الصائمين، ومنها:

⁃ التصدق ولو بالقليل «ولو بشقّ تمرة».
⁃ تفقد الفقراء ماديًا ومعنويًا.
⁃ صلة الأرحام.
⁃ تخليص الأموال، وما نملك من الحقوق المتعلقة بها من الحقوق الشرعية.
⁃ عيادة المرضى.
⁃ الحث على التسامح بين المتخاصمين.

وغيرها من القيم الاجتماعية الجميلة.

لكن يتصدر قائمة هذه القيم الإسلامية، وبخاصة في شهر رمضان المبارك، تلاوة القرآن والتدبّر في آياته.

ولهذه الظاهرة المباركة «تلاوة القرآن» حضورها القوي في مجتمعنا القطيفي منذ عشرات السنين، وما زالت - ولله الحمد في تنامٍ وتطور.

فما إن يرتفع أذانُ المغرب حتى نرى الصائمين يهرعون إلى المساجد زرافاتٍ ووحدانًا، داعين الله قبول صلاتهم وصيامهم، بعدها يكرّون راجعين إلى منازلهم وكلّ نفوسهم الفرحة والسرور والبهجة، لتناول الإفطار الرمضاني مع تجمع العائلة، الذي تمتزج على موائده الأكلات الشعبية - التي لها أصالتها القوية مع عمق هذه الواحة الغنَّاء - بأكلات حديثة أفرزتها امتزاج ثقافات الشعوب، بفضل التواصل الإعلامي، الذي جعل العالم - كما يُقال - قرية صغيرة، وكلّ ذلك رغبة من الأمهات والزوجات - أثابهنّ الله - في أن يَنلنَ بهذا العمل الذي لا يخلو من مشقة، ثواب إفطار الصائمين.

وبعد الانتهاء من الإفطار مباشرة، يصدح القرّاء بتلاوة آي الذكر الحكيم من المساجد والحسينيات والمنازل، فتشعر بروحانية تشدك إلى آفاق روحية صافية بعيدة عن قلق المادة وتعقيداتها التي أشغلتنا عن أنفسنا حتى صرنا غرباء عنها، فتسري بأصداء تلكم الآيات الكريمة، الطمأنينة والارتياح نفوس الكبار والصغار.

وسنسلط - قارئي العزيز - الضوء في هذه الأسطر على ظاهرة قراءة القرآن في المنازل في هذا الشهر المبارك

قراءة القرآن في البيوت

شهر رمضان المبارك هو ربيع القرآن، لذا تجد المسلمين في أقطار الأرض يتلون أجزاءه، فرادى، ومجتمعين، لكنّ لقراءته مجتمعين في المنازل تقاليده الخاصة الجميلة.

تتجمع العائلة بعد الانتهاء من الإفطار في مجلس العائلة عادة، فيجتمع الأب وأبناؤه وأحفاده، وقد يتواجد الجيران والأقارب والأصدقاء أحيانًا، فيأخذ أحدهم زمام المبادرة في البدء بقراءة الجزء المخصص لتلك الليلة، بصوت عالٍ تساعده في ذلك حنجرته أو مكبرة الصوت «الميكرفون».

فيقرأ ثلث الجزء أو نصفه، ويترك ما تبقى منه لقارئ آخر من الحاضرين دون تحديد أو تسمية، فيقفُ عن بداية حزب جديد أو بعد انتهاء آية من الآيات، ويقولُ لأحد الحاضرين: تفضل بالقراءة، فيشرعُ القارئ الثاني بقراءة ما تبقى من الجزء، وقد يُعطى لقارئ ثالث إكمال الجزء، وقد تصل النوبة لرابع إلى أن ينتهي الجزء.

الجدير بالذكر بأنَّ صغار السن يعطوا فرصة لقراءة القرآن، ويقوم المستمعون من الكبار بتصحيح تلاوتهم إن احتاجوا لذلك، وذلك من باب التشجيع لهم؛ ليكونوا قرّاءً أساسين في الجلسات القرآنية مستقبلًا.

ولا تخلو هذهِ القراءةُ الجماعيةُ من تصحيحٍ لتلاوة آية أو كلمة، قد يُخطئ فيها أحدهم، دونما تبرّم من المصحح له غالبًا.

وقدر يوقفُ القارئ أحد المستمعين برهةً قصيرةً، فيسأل عن معنى الآية المتلوة، فإن كان أحد الحاضرين من لديه من معرفةً كافيةً بموضوع الآية أجاب، وإلا تؤجل إجابته لجلسة قادمة ريثما يتم التحضير لذلك التساؤل.

قرّاء لايخطئون في القراءة

نعم قد تجد بعض القرَّاء لا يخطئ أبدًا في تلاوة القرآن - وهذا نادر طبعًا - ويعزى ذلك لعدة أسباب أبرزها:

⁃ كونه من الملتحقين بدورات القرآن الكريم، وهذا يصدق على القرَّاء الشباب.

⁃ أو كونه أحدَ المتخرجين من الكتاتيب القديمة التي كانت موجودة في القطيف، التي اندثرت، حيث كان يلتحق بها الطالب، ويأخذ بقراءة القرآن كاملًا تحت تدريب وإشراف الملا أو معلم القرآن، وهذا يصدق في القرَّاء من الكبار.

⁃ أو كونهُ يتلو القرآن الكريم، بشكل مستمر، أو يحاكي أحد القرَّاء المشهورين، فتقل أخطاؤه.

أسباب وقوع الخطأ لدى بعض قرّاء القرآن

ولعلَّ من أبرز أسباب وقوع البعض في الخطأ في تلاوة بعض آيات القرآن - من وجهة نظري القاصرة - كون القارئ، ليس له إلمام كافٍ برسم وكتابة القرآن، والمسمى الرسم العثماني -، الذي له قواعده الخاصة من نطق بعد الحروف وعدم نطق بعضها أحيانًا أخرى، التي تختلف بطبيعة الحال، عن الكتابة العادية الرسمية التي اعتاد القارئ على كتابتها وقراءتها.

لذا يجبُ على قارئ القرآن أن يتقن كيفية رسم الكلمات بالرسم العثماني لتقلَّ أخطاؤه.

ويمكن إضافة سبب آخر، وجدتُه شخصيًا في بعض البيوت، ومنها في مجلس عائلتنا العامر - كون المصحف الذي اعتدنا التلاوة منه، قد خط بالخط الباكستاني القديم، والموجود عندنا مايقرب من أربعين سنةً، والذي أتى به جدّنا الحاج مهدي المطرود - عليه الرحمة - من مكة أو المدينة - في أحد أسفاره لتلك البقاع الطاهرة.

لكن إخواني، في السنوات الأخيرة، قد أحضروا مصحفًا كبيرًا، خطَّ بالخط العثماني - من مطبوعات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، الذي يوزع هديةً على الحجاج والزوار والمعتمرين - ليسهل على المشاركين التلاوة منه، وبخاصة الصغار من أولاد العائلة، بجانب المصحف القديم.

ولا شك أننا بمرورِ السنوات استفدنا كثيرًا من تصحيح إخواني لنا أثناء القراءة بالرغم من رسمه الآنف الذكر.

بعد الانتهاء من قراءة الجزء المخصص لتلكم الليلة نشرع بقراءة «دعاء الافتتاح» المروي عن الإمام المهدي - - الموجود في كتب الدعاء المشهورة.

وقد يتناوب قرَّاؤه، وغالبًا ما يقرأه شخص واحد.

ويختم المجلس بقراءة دعاء الليلة التي نحن فيها، والموجود في كتب الأدعية المخصصة بأعمال شهر رمضان المبارك، وعادة ما يكون قصيرًا قياسًا بدعاء الافتتاح.

بعده ينتهي المجلس فتوزع المشروبات الساخنة أو الباردة وبعض الفاكهة، كلٌّ يقدم الضيافة حسب سعته ومكنته المادية.

وتتجاذب العائلةُ والأصدقاء ُفي جوٍّ مفعم بالرحمة أطراف الأحاديث الأخوية الجميلة، التي تشعرك بالدفء العائلي، فتتعرف إلى أخبار العائلة على مدار شهر كاملًا.

نعم يصيبنا الضجرُ والوحشةُ كلما اقترب شهرُ رمضانَ المبارك على الانصرام والرحيل، لفقدنا تلكم الأجواء الروحية المباركة.

الجدير بالذكر أنَّ بعض العوائل، تصرُّ على إحياء مجلس الذكر في منازلها، فتستأجرُ بعضُ قرَّاء القرآن إما لكون صاحبُ البيتِ أميًّا، لا يقرأُ ولا يكتب، أوكون بعض أفرادها الجيّدين للقراءة في أعمالهم المسائية.

وقد أخبرني إخواني، أنهم لما كانوا صغارًا،، كان جدنا - رحمة الله عليه - يأتي بالقرّاء، يحيون مجالس القرآن الكريم، وكان منهم:

- الحاج سلمان «سالم» عبدالله غزوي، من القديح - رحمه الله عليه.
- الحاج عبدالله بن حسن غروي، من القديح، - حفظه الله.
⁃ الحاج عيسى حسن المرهون، من القديح - حفظه الله.
⁃ الأستاذ الحاج علي مهدي طحنون، من القديح - حفظه الله.
⁃ ابن عمنا الحاج رضي إبراهيم المطرود، من القديح - حفظه الله.
⁃ الحاج علي ناصر العباس، من القديح، - حفظه الله.
⁃ وغيرهم من الخطباء والملالي الذين كانوا يقرؤون في المنازل في تلكم الفترة.

⁃ وهكذا كانت طريقة أغلب عوائل القطيف، في تلكم الفترة، إذ كان أغلب الآباء لا يعرفون القراءة والكتابة، فيلجأون لغير أبنائهم ممن يجيد قراءة القرآن، من خريجي كتاتيب القرآن الكريم في المنطقة.

⁃ لكن فما إن يشتدَ عودُ أبنائهم، بالتحاقهم بالكتاتيب أو المدارس النظامية ويتقنون الكتابة والقراءة، حتى يستقلوا بقراءة القرآن الكريم بأنفسهم، دون حاجة إلى الاستعانة بالآخرين، وذلك من مسببات السرور والافتخار لدى الآباء

⁃ ذكرتُ لك - قارئي العزيز - بعض التفاصيل، لتكون على معرفة في مدى إصرار آبائنا عليهم الرحمة في محافظة القطيف على استمرار هذه الظاهرة الرمضانية المباركة في منازلهم.

ويختم بعض المجالس برنامجه المسائي اليومي بعد قراءة القرآن والدعاء، بمحاضرة دينية، يلقيها أحد الخطباء، يتم الاتفاق معه قُبيل شهر رمضان المبارك.

أهازيج الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك

من العادات الجميلة في مجالس الذكر الرمضاني في القطيف، أنك تسمع الأهازيج الجماعية - التي تأنسُ بها النفس، وتشعرك في الوقت نفسه، بالحزن لفراق شهر رمضان المبارك - حيثُ تصدرُ من مكبرات الصوت، وبخاصة في الليالي الأخيرة من الشهر المبارك، وأقصد بها، التي تسبق ليلة العيد - السابعة والعشرين، والثامنة والعشرين، والتاسعة والعشرين -، حيث يقرأُ القارئ بعد تلاوة القرآن والدعاء بصوت حزين، القصيدة الوداعية المعروفة التي مطلعها:

أحمدُ اللهَ في ابتداءِ الكلامِ
وأُصلي على شفيع الأنامِ
أسألُ اللهَ فضلَهُ بالدوامِ
وكذا عفوَهُ وحسنَ الخِتامِ
فضلُ شهرُ الصيامِ ليس يُعدُّ
قد تدانى رحيلهُ فاستعدوا
ليلةُ القدر فيه خيرٌ يعدُّ
ودِعُوْا الشهرَ بالدعاء بالدوامِ

نسأله تعالى بحقّ محمد وآله الطاهرين أن يكشف هذه الغمة، إنه سميع مجيب الدعاء.

شكر وتقدير

يسعدني في خاتمة هذا المقال أن أتقدمُ بالشكر الجزيل للإخوة الأعزاء: - شقيقي مهدي حسن المطرود، والصديق الأستاذ نوح سلمان الجارودي - حفظهما الله - حيثُ زوداني كلاهما، بصور جميلة من ألبوهما الخاص، توثق بعض التغطيات القرآنية لمجالس الذكر في منطقة القطيف.

كما أقدم شكري للصديق الأستاذ ملا هاني أحمد آل محيسن - حفظه الله - لتزويدي ببعض المعلومات المهمة فيما يقرأ في الليالي الأخيرة من أدعية وأهازيج جميلة في مجالس الذكر في منطقتنا في شهر رمضان.