الشر هل ينقض وجود الله؟!
في موضوعنا السابق «الشر: معضلة أبيقور» تعرفنا على هذه «المعضلة» بما تثيره من إشكالات حول الذات الإلهية، انطلاقا من التشكيك في بعض صفاتها كالعلم والقدرة والخيرية المطلقة، وصولا إلى إنكار وجود الإله، وذلك لأن هذه المعضلة بعد أن تتساءل عن فلسفة وجود الشر في الحياة؟ وهل هو لأن الإله قادر على رفعه لكنه لا يريد لأنه أصل الشرور في العالم، أم لنقص في القدرة الإلهية يجعلها غير قادرة على رفعه، ليكون من الصعب الاعتقاد بوجود إله من الأساس، إذ كيف يكون الإله عاجزا ومحدود القدرة؟!
الهدف الأساس الذي تريد هذه المعضلة الوصول إليه هو «إنكار وجود الله» متخذة من وجود الشر دليلا على ذلك، وكما رأينا فقد تنوعت الإشكالات المطروحة على الفكر الديني فيما يتعلق بالإله لتشكك في بعض صفاته وتارة، وتحاول نقض الاعتقاد بوجوده أخرى.
وقد أكد عير واحد من الباحثين والكتّاب على أن هذه المعضلة أهم ركيزة يتكئ عليها الملحدون في محاول إنكار وجود الله عز وجل قديما وحديثا، كونهم يعتقدون أنها مشكلة كبرى وحقيقية تواجه الفكر الديني، فلا يقوى على مواجهتها، وكل أدلته عاجزة عن دحضها.
يقول رضا زيدان: «لا نبالغ إذا قلنا إن مشكلة وجود شرّ في العالم هي أهمّ مشكلة نفسية وفلسفية يطرحها الإلحاد قديمًا وحديثًا، وهي الأكثر حضورًا في المناظرات الشهيرة بين أنصار الإلحاد الحديث واللاهوتيين» [1] .
ويقول الدكتور نور الدين أبو لحية: «يمكن اعتبار معضلة الشر أو مشكلة الشر من أكثر الشبهات الإلحادية تداولا منذ القديم، وإلى عصرنا الحاضر، فهي موجودة في كل كتب الإلحاد، سواء كانت ذات طابع علمي أو فلسفي أو أدبي... وحتى في المحافل الإلحادية نجدهم يعبرون عنها بصيغ مختلفة.
وهم يتصورون أنها البرهان الأكبر، والدليل الأعظم على نفي وجود الله...» [2] .
ويمكننا اكتشاف هذه الحقيقة من خلال تلك الأطروحات الكثيرة التي تحاول أن تطرح مسألة وجود الشر كمشكلة حقيقية تواجه الاعتقاد بوجود الإله، وتمنع من الإيمان به، وكما يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل تولي في مناظرته مع لوليام لين كريغ: «الحجة المركزية للإلحاد الحديث هي حجة الشر»
أما الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنز فقد وصفها بأنها «صخرة الإلحاد» وهو وصف له دلالته الكبيرة في مدى اعتماد هذه المشكلة والاتكاء عليها في إثارة الشبهة حول وجود الله من جهة، والدعوة إلى الإلحاد من جهة أخرى.
كما يوضخ الفيلسوف الأمريكي رونالد ناش مدى أهمية هذه الفكرة في الفكرة المادي، وإلى أي حد يتم الاعتماد عليها في محاولة إنكار وجود الله، فيقول «الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي، لكن كلّ الفلاسفة الذين أعرفهم يؤمنون بأن أهمّ تحدٍّ جادٍّ للإيمان بالله كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر» [3] .
ويؤكد الفيلسوف ما يكل روس على أنه «لا يرفض الإيمان بوجود الله إلا لسبب واحد، وهو مشكلة الشر»
كما يرى ريتشارد دوكنز أنه «لابد من المسير إلى قول بسيط وسهل، وهو الإقرار بوجود الشر، ورد وجود الله» [4] .
ويحاول وليام رو الذي صياغة هذه الإشكال صياغة منطقية، فيقول: «الشكل المنطقي لمشكلة الشر هي الرؤية التي تقول: إن وجود الشر في عالمنا منافر منطقيا لوجود الرب الإلهي»
كما أكد على أن «تناقض وجود الشر ووجود الإله الخير يلزم منه نفي أحدهما، ولمّا كانت معرفتنا بوجود الشر يقينية لا يمكن نفيها، وجب إذن القول بنفي وجود الله!» [5] .
وهو ما أشرنا إليه في موضوع «الشر: معضلة أبيقور» من أن مشكلة وجود الشر من المشاكل الكبرى والمعقدة التي يتم طرحها «كمبحث فلسفي للاعتراض على منظومة لاهوتية بعينها، عجزت عن أن تنشئ توافقا ضمن مقولاتها المعترفة بوجود الشر، والعاملة - في نفس الحين - على صياغة تصوّر انطلوجي للمؤمن، كما تُطرح بصورة أعمّ من طرف الملاحدة باعتبارها مانعا دون التسليم بوجود رب خالق للكون» [6] .
لا يسلم الإلهيون للماديين والملحدين بأن وجود الشر ينقض الاعتقاد بوجود الإله، ويرون أن هذا الادعاء لم يقم لا على أسس علمية رصينة، ولا على حجج عقلية صحيحة، بل لو قلنا أنه مجرد كلام إنشائي عام لا يصح اللجوء إليه في الدراسات النقدية الصحيحة والموضوعية لما عدونا الحقيقة.
والحق أن هذا الادعاء أو الاشكال يحتاج إلى مناقشة، ويمكننا أن نرده بوجوه كثيرة، نلخصها فيما يلي من وحوه:
الوجه الأول: إنكار الإله يؤدي إلى مشكلة منطقية عويصة:
إن إنكار وجود الإله يوقعنا في مشكلة منطقية عويصة، هي عدم التمكن من إعطاء تفسير منطقي لكيفية وجود هذا الكون ونشأته، وذلك لوجود الرابطة العقلية بين وجود الكون ووجود المكون، استنادا إلى «قانون العلية» الذي ينص على أنه لابد لكل موجود من موجد، وبما أنه ثبت لدينا وجود الكون وأنه حادث، والبداهة العقلية تقضي بأنه لابد لكل حادث من محدث، فهذا يقودنا إلى وجوب التسليم للحكم العقلي المنطقي بوجوب وجود واجب الوجود الذي أوجد كل الموجودات.
وسبق أن ذكرنا في بعض مؤلفاتنا بعض الأدلة على وجود الله تبارك وتعالى، وكان منها الدليل العقلي «احتياج المعلول إلى علّة» فكان مما قلناه في عرضه وبيانه: «الواقع أنه ليس هناك ما هو أكثر من أدلّة وجود الله ووحدانيته سبحانه وتعالى، إذ أن هذه الأدلّة تفوق عدد الرمل والحصى، وفوق عدد أنفاس الخلائق بكثير، ولو ذهبنا نستقصي هذه الأدلّة المتكاثرة، ونفصّل القول فيها، لملأنا صفحات كثيرة، بل لخرجنا بمؤلَّف كبير، ولكننا نكتفي من كل ذلك بدليل واحد فقط، هو «دليل العليَّة» الذي ينصّ على أنه لابدَّ للمعلولات من علة، فالكتاب يحتاج إلى كاتب، والزرع يحتاج إلى زارع، والبناء يحتاج إلى بنّاء... وبالجملة فإن كل حادث يحتاج في حدوثه إلى محدث.
وسواء قلنا أن قانون العلية ثابت بالعقل - كما يؤكد العقليون - أو قلنا أنه ثابت بالتجربة - كما يذهب التجريبيون - فليس هذا هو المهم، وإنما المهم هو أن قانون العليَّة ثابت لدى الجميع، ولا يستطيع أحد أن ينكره مهما كابر وعاند.
وإن أبيت إلا الاحتكام إلى الدليل، فإن الدليل يدلّ على أن قانون العليَّة ثابت عقلًا، وما التجربة إلا مؤكدة لهذا الثبوت العقلي، ويثبت ذلك ويؤكده أنَّ كل الناس - باختلاف أعمارهم، ومستوياتهم العلمية - يتساءلون عن الأشياء وعلل حدوثها، فحينما يرى الطفل ثوبه الجديد تراه يلتفت إلى أمه سائلًا إيّاها عمّن أحضر هذا الثوب، لتخبره أن أباه هو الذي أحضره بمناسبة العيد مثلًا، وحينما يسمع الفلاح الباب يطرق، يتيقن أن هناك طارقًا طرقه، وعندما يرى العالم مكتبته مرتّبة، يتأكد أن زوجته أو ابنه الأكبر هو الذي قام بترتيبها وتنظيمها.
وإن دلتنا هذه الأشياء وأمثالها على شيء، فإنّما تدلنا على أن قانون العليَّة من القوانين العقلية، التي أدركها الإنسان بعقله منذ أن وُجِد على الأرض.
وهذا القانون يعتبر من أعظم الأدلة على وجود الله تبارك وتعالى، لأنه إذا سلّمنا بأنه لابدَّ لكل معلول من علَّة هي السبب في إيجاده وحدوثه، ونحن نعلم أن الكون حادث وليس قديما، لأنه فاقد لصفات الأزلية، فهذا يقودنا إلى التسليم بوجود محدث وخالق لهذا الكون العظيم بما فيه.
ولهذا قال المفكر الاسكتلندي «لانج»: «كل إنسان يحمل في نفسه فكرة العليَّة، وإن هذه الفكرة كافية لتكوين العقيدة بأن ثمة آلهة صانعة وخالقة للكون.» [7] .
ومن هنا نرى الأعرابي حين سئل عن الدليل على وجود الله تعالى، أجاب فورًا: بأن البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا يدلان على اللطيف الخبير؟!
وقيل لعجوز: بم عرفت ربك؟
فقالت: بدولبي هذا - وهو ما ينسج عليه الغزل - إن حركته تحرك، وإن تركته سكن.
فالأعرابي والعجوز يستدلان على وجود الله بقانون العليَّة، الذي ينصّ على وجوب إسناد الأثر إلى المؤثر، وإرجاع المصنوع إلى الصانع، والمتحرّك إلى المحرّك، فإذا كانت البعرة - وهي من أحقر الموجودات - تدلّ على وجود البعير، وكذا الأثر يدلّ على المسير، فهذا الكون العظيم كيف لا يدلّ على الخالق العلي القدير؟!
وإذا كانت الأشياء كلها - مهما كانت بسيطة وصغيرة - لا تتحرك بدون محرّك خارجي يحرّكها، فكيف لا نؤمن بوجود محرّك يحرّك هذا العالم بأسره؟!
وإذا كانت المادة العمياء، والطبيعة الصماء، والصدفة البكماء، وجميع الآلهة المزعومة الباطلة، لا تستطيع أن تخلق هذا الكون ولا أن تحرّكه، لأنها هي أساسًا مخلوقة ومصنوعة، فلا يبقى أمامنا إلا التسليم بأن هذا الخالق والمحرّك هو الله رب العالمين» [8] .
والخلاصة أن هناك رابطة عقلية بين وجود الكون ووجود المكون، وإنكار هذه الرابطة تنشأ عنه مشكلة كبرى، هي عدم إمكان إعطاء إجابة منطقية لكيفية وجود هذا الكون، وبما أن الفلسفة المادية الإلحادية تقوم على إنكار وجود الله مستندة إلى وجود الشر، فعليها أن تقوم بتقديم جواب منطقي لكيفية وجود الوجود، وهو ما لم يفعله الماديون.
الوجه الثاني: الخير هو الأصل:
إن الفلسفة المادية تقوم على السفسطة، التي تعني المغالطة في الحقائق بما يوهم بالاستدلال الصحيح، فمع أن الأصل في الوجود هو الخير، والشر هو الطارئ والاستثناء.
ووفق بعض النظريات الفلسفية، فإن الموجودات الممكنة - بالقسمة العقلية - تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 - ما هو خير محض، لا شر فيه أصلاً.
2 - ما فيه خير كثير مع شر قليل.
3 - ما فيه شر كثير مع خير قليل.
4 - ما يتساوى فيه الخير والشر.
5 - ما هو شر مطلق، لا خير فيه أبداً.
ولا يوجد شيء من الأقسام الثلاثة الأخيرة في العالم، لأن ذلك يستلزم الترجيح من غير مرجح، بل ترجيح المرجوح على الراجح، وبما أن الله تبارك وتعالى قادر على كل شيء، وعالم بكل شيء، وحكيم في فعله، وكريم في عطائه، بل أن جوده لا يخالطه بخل أبداً، فلابد أن يصنع ما هو الأفضل والأصلح في النظام، وأن يعطي ما هو خير محض، وما خيره أكثر من شره، لأن في ترك الأول شرا محضا، وفي ترك الثاني شرا كثيرا.
وعلى هذا فإن نسبة وجود الشر قليلة جدا، بل هي نادرة ولا تكاد تذكر إذا ما قيست بوجود الخير الكثير.
ومع أن الأصل هو الخير إلا أن الفلسفة الإلحادية نظرت إلى الفرع وتغافلت عن الأصل، لتتخذ من الفرع دليلا على عدم وجود الله عز وجل، في حين أن المنطق الذي تدعي الاحتكام إليه يحتم عليها النظر إلى الأصل وليس إلى الفرع.
الوجه الثالث: عدم صحة مقدمات الإشكال:
من أجل أن يكون هذا الإشكال فعلا هو إشكال عقلي صحيح، يجب أن تكون مقدماته ليس فقط صحيحة، بل وضرورية أيضا، بمعنى أن العقل يجب أن لا يسلم إلا بهذه النتيجة التي يدعيها الفكر المادي من أن وجود الشر يلزم منه عدم وجود الإله، ولا يمكنه أن يأتي بنتيجة أخرى تدحض هذا الادعاء بوجود التناقض بين وجود الشر ووجود الإله.
وهذا ما لا يستطيع الماديون القول به، لأن العقل لا يحكم بوجود هذا التناقض أصلا، فضلا عن القول بحكمه به على سبيل الجزم والقطع.
والإلحاديون أنفسهم، - بمن فيهم من أثاروا هذه الشبهة - يعترفون بذلك، كما هو الحال في «وليام رو» نفسه، الذي يقول: «حتى يعمل هذا الإجراء لا يكفي أن يكون ما نضيفه من تقرير صحيحا، وإنما يجب أن يكون صحيحا ضرورة... رغم أنه بإمكاننا أن ننجح في استنباط تقريرات متناقضة للتقريرات، إذا كانت التقريرات المعتمد لاستنباط التناقض الصريح صحيحة، دون أن تكون صحيحة ضرورة، إلا أننا لن ننجح بذلك في إظهار أن التقريرين الأصليين متعارضان منطقيا» [9] .
وهو اعتراف صريح بأن ما ساقه من إشكال معتبرا إياه منطقيا هو غير منطقي ضرورة، ليترتب على ذلك عدم كفايته في إثبات صحة المدعى من وجود التناقض بين وجود الشر ووجود الله سبحانه وتعالى.
الوجه الرابع: الجهل ليس دليلا:
لقد أخذ الماديون الملحدون من جهلهم بعدم وجود المنافع أو الحكم والمصالح المترتبة على وجود الشر دليلا على عدم وجودها، في حين أن الجهل ليس بحجة، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، وإلا فبغض النظر عما هو ثابت ثبوتا قطعيا من وجود المنافع المترتبة على وجود الشر كما سنثبت ذلك في بعض مواضيعنا القادمة، بل وحتى على فرض عدم توصلنا إلى معرفة تلك الحكم والمنافع، فإن العقل لا يستطيع أن يحكم بعدم وجودها، ولا يمكنه القطع بأن وجود الشر ينقض وجود الله عز وجل، كما أنه لا يمنع من إمكان وجود منافع نحن نجهلها.
وفي شرح هذا المعنى يقول ليبنتز: «بالنسبة إلى الإله لا تحتاج إلى افتراض أسباب خاصة ربما تكون قد دفعته إلى السماح بالشر، بل تكفي الأسباب العامة، والتي تنحصر في أن الإله لما كان يعتني بالكون بأسره، وهو العالم الذي ترتبط أجزائه فيما بينها، فمن الواجب أن يستنبط الإنسان من ذلك أن الإله كانت لديه اعتبارات لا حصر لها جعلته من المناسب أن لا يمنع شرورا معينة» [10] .
وهو ما يقرره أيضا الفيلسوف ستيفن دافز بقوله: «يكفي للمؤمن بالله لينقض دعوى التناقض المنطقي بين وجود الله ووجود الشر أن يشير إلى إمكانية أن تكون لله حجة أخلاقية جيدة للسماح بوجود الشر» [11] .
والمعنى هو بما أنه ثبت لدينا أن الله حكيم وعليم على الإطلاق، فهذا يقودنا منطقيا إلى الاعتقاد أن لهذا الشر حكمة في علمه وإن كانت خافية علينا، وتترتب عليه مصالح نحن قد نجهلها أو نجهل بعضها، وبهذا يتنقض الادعاء بأن وجود الشر ينقض وجوده سبحانه وتعالى.
وهذه الحقيقة هي التي يقررها القرآن الكريم في بعض آياته، كما في قوله عز وجل: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[12] ، وفي آية أخرى: ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[13] .
وهي تقرر أن بعض ما نتصور أنه شر ونكره حدوثه قد يجعل الله فيه ليس الخير فقط، بل الخير الكثير، الذي إنما جهلناه لقصور إدراكنا، وقلة علمنا.
الوجه الخامس: الأحكام العقلية عامة:
لو كان العقل يحكم - ضرورة - بتناقض وجود الشر مع وجود الله لما رأينا من يعتقد بوجوده عز وجل، وذلك لأن القضايا العقلية الضرورية القطعية أحاكمها عامة، ومحل تسالم جميع البشر بدون استثناء، كما هو الحال - مثلا - في تسالمهم على «عدم اجتماع النقيضين، وأن الجزء أصغر من الكل» وما شابه ذلك من قضايا عقلية بديهية تتصف في أحكامها بالعموم والشمولية، ولكننا لا نرى مثل هذا التسالم بين الناس فيما يتعلق بمسألة وجود الإله والإيمان به، بل أن وجود الشر في الحياة كما قاد البعض إلى الكفر به والجحود له، دفع البعض إلى الاعتقاد بوجوده، والإيمان به سبحانه وتعالى.
وفي هذا المعنى يقول دانيا سبيك: «دعوني ألفت انتباهكم إلى حقيقة كثيرا ما نغفل عنها حول التجربة الإنسانية مع الشر، وهذه الحقيقة التي أسميها بهذا الاسم عامدا، هي أن مواجهتنا مع الشر لا يبدو أنها تدفعنا بشكل موحد إلى عدم الإيمان، فالطبع، حقيقي أن العديد من الناس قد تمّ اجتذابهم إلى عدم الإيمان كنتيجة لتأملهم العميق للشر المعاناة، أن تجربتهما المباشرة معهما، في الوقت نفسه يجب ألا نتجاهل أن العديد من الناس كذلك قد تمّ اجتذابهم إلى الاعتقاد الإيماني والالتزام الديني من خلال تجارب كهذه، ويعتبر ما يسمى بالتحولات الخندقية - التحولات إلى الإيمان نتيجة المرور بمحنة أو أزمة - مثالا عاما الاتجاه نحو الالتزام الديني الذي أثارته المواجهة مع الشر، لكن هذه الظاهرة واسعة الانتشار، فإزاء الشعور بالمعاناة أو الخطر أو اليأس، يجد الكثير من البشر أنفسهم يحاولون الالتجاء إلى كائن متعال، أحيانا طلبا للمساعدة، وأحيانا أخرى التماسا للراحة، وربما بشكل أعمق: رغبة في الحصول على تفسير، كما يتضح أن عددا لا يستهان به من أولئك الناس يبدو أنهم قد نجحوا في اكتشاف ما يلتمسونه بشكل كاف.
الفكرة هنا أنه يبدو أن للشر قدرة على اجتذابنا في اتجاهين مختلفين، فمن ناحية تثير مواجهتنا مع الشر شكوكنا بشكل طبيعي بأن كائنا كلي القدرة لا يمكن أن يسمح بهذه الشرور، وفي هذا المسار يقع الشك وعدم الإيمان، ومن ناحية أخرى يمكن لهذه المواجهات مع الشر أن تتسبب في إدراكنا لعمق محدوديتنا، وشدة ضعفنا وجهلنا الصادم، فرؤية الطابع الجذري لوجودنا الطارئ ستثير مرة أخرى بشكل طبيعي تماما توقا إلى الاستناد إلى ضرورة تتجاوزنا بكامل قوة سلطتها التفسيرية المطلقة، وفي هذا المسار يكمن الإيمان والالتزام...» [14] .
وهذا في حد ذاته ينقض ما يدعيه الماديون من أن وجود الشر يؤدي منطقيا إلى عدم وجود الإله، إذ كيف ندعي ذلك ونحن نرى آثار الشر على الكثيرين من الناس بعكس هذا المدعى تماما؟!
الوجه السادس: الشر يرسخ الاعتقاد الديني:
إن وجود الشر ليس فقط لا ينقض الاعتقاد بوجود الإله، بل يزيده رسوخا وإثباتا، وهذا ما ذهب إليه وحاول إثباته أكثير من واحد من علماء الكلام على وجه الخصوص، عكس ما يراه المسيحيون من أنه يتنافى مع طبيعة الله الخيرة.
يقول محمد بو هلال: «رأى اللاهوتيون المسيحيون في وجود الشر خطرا على وجود الله لأن طبيعته منافية لطبيعة الله الخيرة، وتدل بعض ردود الإكويني في الخلاصة اللاهوتية على أن من الملاحدة من استدل بوجود الشرور على استحالة وجود الله، لكن ظاهرة الشر في نظر المتكلمين المسلمين لم تكن بهذا المستوى من الخطورة، لم يروا فيها ما يهدد وجود الله، بل لعلهم وجدوا فيها دليلا يثبت هذا الوجود» [15] .
وممن حاولوا الاستدلال بوجود الشر على وجود الله أبو منصور الماتريدي[16] الذي ذهب إلى أنه لو لم يكن للكون خالق خارج عنه، وكان هو الذي أوجد نفسه بنفسه لكان خلق نفسه على أحسن حال، ولما أوجد الشرور في نفسه، كما أكد على أن هذا التقابل الموجود في الكون ما بين خير وشر وصلاح وفساد وعمار ودمار... هو دليل آخر على أنه لم يوجد نفسه بنفسه، وأن له موجدا أوجده على هذه الصفة، فقال: «إن العالم لو كان بنفسه لم يكن وقت أحق به من وقت، ولا حال أولى به من حال، ولا صفة أليق به من صفة، وإذا كان على أوقات وأحوال وصفات مختلفة ثبت أنه لم يكن به، ولو كان لجاز أن يكون كل شيء لنفسه أحوالا هي أحسن الأحوال والصفات وخيرها، فيبطل به الشرور والقبائح، فدل ذلك على كونه بغيره» [17] .
والذي نراه هو أن مثل هذا الاستدلال إنما هو فقط من باب الالزام، وإلا فعقيدتنا أن الله خلق هذا الكون في أعلا درجات الإتقان والإحكام، وأن ما به من شرور لا تعني وجود النقص به، بل من كماله أن يكون كذلك، وربما نحاول توضيح ذلك في بعض مواضيعنا القادمة.
الوجه السابع: الشر لا ينفي وجود الإله وإن أثار بعض الشبهات حول صفاته:
من ناحية منطقية يمكننا القول: إن وجود الشر لا ينفي وجود الإله لعدم وجود الملازمة بين الأمرين.
نعم، يمكن أن يثير بعض الشبهات أو التساؤلات المتعلقة ببعض صفاته، كالقدرة المستطيلة على كل شيء، أو الخيرية المطلقة في كل ما يصدر عنه، أما أصل الوجود فلا سبيل إلى إنكاره من خلال هذه الشبهة لعدم الملازمة.
ومع إيماننا الكامل، ويقيننا أن وجود الشر في الحياة لا يدل على أي نقص في الإله، ولا يعني أنه متصف بأي صفة من صفات القبح أبدا وعلى الإطلاق، إلا أننا وفقط من باب التوضيح نقول: إن ظلم بعض الحكام والمتسلطين لا ينفي حقيقة وجودهم، وكذلك الحال - هنا - فوجود الشر لا يعني عدم وجود الإله، وإن توهم البعض أن هذا الشر يدل على عدم خيريته المطلقة، أو أنه ناقص القدرة، أو ما شابه ذلك من أمور.
وهذا ما يسلم به الملحدون أنفسهم، في الكثير من نصوصهم، التي نقل بعضها الدكتور أبو لحية في إثباته لعدم وجود الملازمة بين وجود الشر وعدم وجود الإله، ولا بأس أن أنقل بعض قوله في ذلك بما يتضمنه مما نقله من نصوص الإلحاديين في ذلك، فقد قال:
«... وقد أقرّ الملاحدة أنفسهم بضحالة الاستدلال بمعضلة الشر على نفي الإله، حيث أن الفيلسوف الملحد ج. ماكي، والذي يُعدّ من أشرس الملاحدة استدلالًا بمشكلة الشرّ، وانتصارًا للإلحاد، يذكر أنّ مشكلة وجود الشر هي: ”مشكلة فقط لمن يؤمن أنّ هناك إلهًا قديرًا كامل الخيريّة، وهي مشكلة منطقية تتمثّل في توضيح عدد من الاعتقادات والتوفيق بينها.. إذا كنت مستعدًا للقول إنّ الله غير كامل الخيرية، وليس تام القدرة... عندها لن تواجهك مشكلة الشر“
ومثله ذكر الفيلسوف دانيال هاورد سنايدر، الذي عبّر عن عجز الملاحدة عن الاستدلال بمعضلة الشر على نفي وجود الله، فقال: ”إنّ مشكلة الشر هي مشكلةٌ للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشّة. أمّا إذا كان للمؤمن بالربّ حجّة صلبة، فإنّ وجود الشر ليس مشكلة“
وبهذا الإلزام الجدلي رد أنتوني فلو بعد تراجعه عن إلحاده على هذه المعضلة بقوله: ”من المؤكد أنّه لابدّ من مواجهة وجود الشر والألم، ولكن، فلسفيًا، يُعتبر هذا الموضوع منفصلًا عن السؤال عن وجود الله، فمن وجود الطبيعة نفسها نحن نصل إلى أصل إيجادها... ربما للطبيعة عيوب، ولكن ذلك لا يدلّ البتّة إن كان لها مصدر نهائي أم لا... وبالتالي فوجود الله لا يرتبط بوجود الشر السائغ أو غير السائغ“
بل إن ريتشارد دوكنز نفسه أقر في كتابه [وهم الإله] بإمكانية الإجابة على هذه المعضلة بمثل هذا الجواب، حيث قال ساخرا: "في الحقيقة، أصحاب الميول الدينية لديهم أيضًا عدم تمييز مزمن بين الحقيقة والأمر الذي يرغبون أن يكون هو الحقيقة، بالنسبة للمؤمن بنوع من الذكاء الكوني الخارق، من السهل جدًا التغلّب على مشكلة الشر، يكفي أن تفترض وجود إله قذر، مثل ذاك المتفشّي في كلّ صفحة من صفحات العهد القديم، أو إذا لم يعجبك ذلك، اخترع إلهًا شريرًا مستقلًا بذاته، وسمّهِ الشيطان، وانسب الشر الذي في العالم إلى صراعه الكوني مع الإله الخيّر، وإن شئت هناك حلّ أكثر تطوّرًا؛ افترض وجود إله له اهتمامات أعظم من أن يأبه لكروب الإنسان، أو إلهًا ليس سلبيًا أمام الآلام التي تصيب البشر، لكنّه يراها ثمنًا لابدّ أن يدفع مقابل نعمة حريّة الإرادة البشريّة في كون منظّم وخاضع للنواميس.
كثير من اللاهوتيين يعمدون إلى تبنّي مثل هذه التعقلنات"
وما ذكره دوكينز ساخرا تعبير حقيقي عن أن الملاحدة أنفسهم يجدون مشكلة في هذه المعضلة، وعدم قدرتها على حل المشكلة من أساسها، ذلك أن وجود الشر لا ينفي وجود الله، وإنما يدعو إلى البحث عن سببه... ولماذا جمع الصانع العظيم الذي أبدع كل هذا الكون في كونه بين الخير والشر، واللذة والألم... وهذا التساؤل يدعو إلى التأمل العقلي، والبحث في الأديان، لا التسرع بنفي الإله» [18] .
إن وجود الشر - إن لم يكن مثبتا لوجود الله - فهو ليس ناقضا لوجوده سبحانه وتعالى، وذلك لعدم وجود الملازمة بين الأمرين، وإنّ هذه الشبهة قد تهاوت وسقطت حتى عند فلاسفة الإلحاد أنفسهم، وكما يقول الدكتور سامي عامري: «من الممكن القول بيقين جازم: إن دعوى لا منطقية الجمع بين وجود الله ووجود الشر في عالمنا قد تمّ تجاوزها في الغرب الذي يمسك فيه الإلحاد صولجان السلطان الفكري، وإنها قد سقطت سقوطا ذريعا تحت مطارق دراسات الفيلسوف الأمريكي الشهير ”بلنتنجا“ ولذلك لا يكاد يعثر على شبهة الشر بهذا المعنى في الكتابات الغربية، إلا في الكتابات الإلحادية الشعبية التقليدية بعد أن هجرها عامة الفلاسفة أمام ”الإرادة الحرة“ كمبرر منطقي لوجود الشر في عالم خلقه إله خبير... [19] .