آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

لا خَيلَ عِندَكَ تُهديهَا وَلا مالُ.. وقفة لغوية

الشيخ سمير آل ربح

يقول المتنبي:

لا خَيلَ عِندَكَ تُهديهَا وَلا مالُ

فَليُسْعِدِ النُّطقُ إِنْ لم تُسعِدِ الحَالُ

وهو مطلع قصيدة يمدح فيها أبا شجاعٍ فاتكًا «سنة ثمانٍ وأربعين وثلاث مئة للهجرة»، من البحر البسيط، وهذا البيت يجري مَجرى الحِكَم السائرة، وما أكثرها في شعر المتنبي!

وهنا وقفة لُغوية مع مفردات البيت، وصولًا إلى شرحه:

1 - لا خيلَ: «لَا» نافية للجنس، لأنها تفيد نفي خبرها عن جنس اسمها، والاسم بعدها مبني على الفتح، نحو قوله تعالى: الله سبحانه: ﴿فَلَا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة: 197]، ونفي الجنس يفيد العموم ويشمل جميع الأفراد، والخيل معلومة، تجمع على أَخْيَال: أَفْعَال «جمع قلة»، وخُيُول: فُعُول، والأول عن ابن الأعرابي، والآخر أشهر وأعرف. [لسان العرب، ابن منظور، خ ي ل]، والخيل مؤنثة، وتصغيرها خُيَيل.

واختيرت هذه المفردة من دون سواها؛ لأن الخيل من نفائس المال، وقد جاءت معرفة بأل في ثلاثة مواضع من كتاب الله، منها: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 8]، «انظر آل عمران: 8، والأنفال: 60»، ومعرفًا بالإضافة مرة واحدة: ﴿وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64]، ونكرة مرة واحدة أيضًا: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [الحشر: 6]، أما ورودها في السنة المطهرة والمأثور عن العرب شعرًا ونثرًا، فهو كثير.

2 - «عِنْدَكَ»: ظرف مكان/ مفعول فيه مضاف إلى الضمير المخاطب، منصوب، والكاف للمخاطب المذكر في محل جر بالإضافة، مبني على الفتح الظاهر، وشبه الجملة في محل رفع خبر «لا» النافية للجنس، والمخاطب هو فاتك الذي أنشد المتنبي هذه القصيدة في حقّه، ويمكن عود الضمير على المتكلم/ الشاعر على نحو التجريد، كما ستأتي الإشارة إليه.

3 - «تُهدِيهَا»: مضارع رباعي مزيد بالهمزة: أهدى، يُهدي، إهداءً، وأصل الفعل «هدى»، ورجل/ امرأة مِهْداءٌ: كثير الإهداء، أو من عادته أَن يُهْدِيَ، «مِفْعَال» صيغة المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، [لسان العرب، ابن منظور، هـ د ي]، و«تُهدِي» مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها الثقل، وفاعل «تُهديهَا» ضمير مستتر تقديره «أنت»، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به.

ووظَّف الشاعر هذه المفردة في هذا السياق، دون سواها من المفردات القريبة من معناها من قبيل: أعطى، تصدَّق...، لما فيها من احترام وتقدير للمُهدَى إليه، فإن «أهدى» تحمل في طياتها معنى صونه وحفظ كرامته، بخلاف الصَّدَقَة التي لا تخلو من بعض الإيحاءات السلبية.

وفي النصوص الكريمة تأكيد على الهدية، فهي من المستحبات، وقد تجب في بعض الموارد، منها إذا كانت مقدمة لإصلاح العلاقة بين اثنين، على تفصيل. عن رسول الله ﷺ: «تهادوا تحابوا؛ تهادوا فإنها تذهب بالضغائن»، [ميزان الحكمة، الريشهري، 4/ 3450]، واستحبابها مطلق يشمل الإهداء بين الزوجين والأرحام والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، بل الأباعد أيضًا.

ولا بد أن تكون الهدية خالصة من دون أن يشوبها شيء من الرياء أو المنّة أو الرشوة...، قال رسول الله ﷺ: «الهدية على ثلاثة وجوه: هَدية مُكافأة، وهَدية مُصانعة، وهَدية لله عَزَّ وَجَلَّ». [جامع السعادات، النراقي، 2/ 131] والمصانعة هي الرشوة، سواء أكانت لاستمالة القاضي ليحكم لصالحه، أم غير ذلك، وحينئذ تكون محرمة.

4 - «ولَا مَالُ»: معطوف على «لا خيل». «لا» نافية، والمال هو كلُّ ما يملكه الفرد أَو تملكه الجماعة من متاعٍ أَو عُروض تجارة وعقار أو نقود وحيوان...؛ ومنه يُعلم في أنه لا ينحصر النقد. والمال مفرد يجمع على «أَمْوَال» على وزن «أَفْعَال».

وجاءت هذه المفردة كثيرًا في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والشعر العربي والأقوال المأثورة. قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177].

وأنشد أبو العلاء المعري:

بِلَا مَالٍ عَنِ الدُّنيا رَحِيلِي

وصُعلوكًا خَرجتُ بِغَيرِ مَالِ

[اللزوميات، أبو العلاء المعري، 2/ 241]

5 - فَليُسْعِدِ: الفاء استئنافية، واللام لام الأمر التي تدخل على الفعل المضارع فتجزمه، وهي مع الفعل في قوة فعل الأمر، والأصل فيها الكسر «لِ»، تقول: لِتُنْفِقْ مَالَكَ، فإذا أدخلتَ عليها حرف فاء/ واو العطف أسكنتَها: ولْتُنْفِق مَالَكَ، وفي البيت جاءت ساكنة هنا لسبقها بالفاء، وعلة التسكين «حذف الكسرة» هو التخفيف، وشواهده كثيرة، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 184].

«يُسْعِدِ»: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه السكون، والكسر «على حرف الدال» عارض للتخلص من التقاء الساكِنَين: ليسعدْ - النَّطق: الساكن الأول الدال، والساكن الآخر النون، فتُخُلِّص من التقائِهما بكسر الدال.

و«يُسْعِدِ» فعل مضارع «أسعدَ» رباعي مزيد بالهمزة على وزن أَفْعَلَ؛ أَسْعَدَ، يُسْعِدُ، إسعادًا، والهمزة للتعدية نقلت الفعل «سَعُدَ» من كونه لازمًا إلى متعدٍ: أَسْعَدَ. تقول: سَعُدَ حَالُك، وأسعدَ اللهُ حَالَك، ومنه تسمية الرجل ب «أَسْعَد»، ولذا فهو ممنوع من الصرف للعلمية ووزن الفعل. والسعد والسعادة اليُمن، خلاف الشقاوة.

6 - «النُّطقُ»: فاعل «فليُسْعِدِ»، مرفوع وعلامة رفعه الضمة. نَطَقَ يَنْطِقُ نُطْقًا: تكلَّم، والمصدر «نُطْقًا»: على وزن «فَعْل»، مصدر سماعي، وناطق: اسم فاعل، ومنطوق: اسم مفعول، والمَنطِق: الكلام.

وجاء الفعل «نَطَقَ» في القرآن الكريم في مواضع متعددة، منها قوله تعالى واصفًا نبيه محمدًا ﷺ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3]، وإنما يُسْعِدُ النطقُ بالكَلِم الطيب بأنواعه، من قبيل المدح والثناء والدعاء والتهنئة والتحفيز وذكر السمات الإيجابية...، وفي مقابله الكَلِم الخبيث، من قبيل الذم والتوبيخ والتقريع والشتم وذكر الصفات السلبية...، وبين ذا وذاك الكلامُ البَاهت الذي لا رونقَ فيه ولا طعم، فهو وإن لم يبرز المشاعر السلبية، لكنه يظهر مشاعر باردة وأحاسيس متبلدة، والمطلوب في كل الأحوال أن يُظهر مشاعر إيجابية حين التواصل مع الآخرين.

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم: 24 - 25]

ومفعول «أَسْعَدَ» محذوف.

7 - «إِنْ لم تُسعِدِ الحَالُ»، الجملة شرطية:

إِنْ: حرف «أداة» الشرط، مبني وعلامة بنائه السكون.

«لم تُسعِدِ الحَالُ» لم: جازمة، تسعد: فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمة السكون، والكسر عارض للتخلص من التقاء الساكنين: الدال في «تسعد»، وهمزة الوصل في «الْحال»، و«الحالُ» فاعل تسعد مرفوعة، وعلامة رفعها الضمة الظاهرة.

الحالُ: هو ما كان عليه الإنسان من خير أَو شر، يُذَكَّر ويُؤَنَّث، والجمع أَحوال وأَحْوِلة؛ الأَخيرة عن اللحياني. ومن ذَكَّر «الحال» جمعه «أَحوالًا»، ومن أَنَّثَها جَمعَه «حالات». [لسان العرب، ابن منظور، ح ول]، والذي يعطيه سياق البيت من معنى أن المراد من «الحال» هو الملاءة المادية والغنى والمقدرة على الإنفاق.

و«لم تُسعِدِ الحَالُ» فعل الشرط. أما جوابه فمحذوف دلَّ عليه قوله: «فَليُسْعِدِ النُّطقُ» بناء على المتسالَم عندهم من عدم جواز تقديم جواب الشرط عليه، فلا محيص من القول بحذفه وتقديره بما تقدَّم.

وبين قوله: «فَليُسْعِد» و«لم تُسعِدِ» طباق سلب.

ويساق هذا البيت في مباحث البلاغة شاهدًا على التجريد، الذي يَعني أن تُجرِّدَ نفسَك فتخاطبها كأنها غيرك، وذلك لنُكت منها قصد التحريض، فقد جرَّد الشاعر نفسه وخاطبها على جهة التحريض على مدح الممدوح. «شرح عقود الجمان في المعاني والبيان، جلال الدين السيوطي، ص ص 277 - 278»، فأراد الشاعر بالحال، الغنى، فكأنه انتزع من نفسه شخصًا آخر مثله في فقد الخيل والمال والحال، ليحلَّ النطق الحسَن محلَ المال، فتتحقق سعادة الآخرين.

وحاصل معنى البيت، أن من فقد المال وعجز عن مساعدة الآخرين، فليهدِهم كلمةً حسنةً ومنطقًا عذبًا، في الحدِّ الأدنى، وقد جاء هذا المعنى في الأحاديث الشريفة، منها «الكلمة الطيبة صدقة»، فهنا توسعة لمفهوم الصدقة على نحو «الحكومة» حسب اصطلاح علم أصول الفقه، من قبيل «الطواف بالبيت صلاة»، أي أن الطواف في حُكم الصلاة، [أصول الفقه، المظفر، 3/ 224 - 225]؛ وعليه تكون الكلمة الطيبة لها ثواب الصدقة في حالة تعذّر إعطاء المال، وفي حال اجتماعها مع إعطاء المال فإن الثواب مضاعف؛ لاجتماع الحُسْنَيَين: الصدقة والكلم الطيب.

ويمكن أن نقول إن المنطق الحَسن مطلوب في الأحوال جميعها، سواء أَتَيَسّرت الصدقة بالمال أم لا، والمُتَحَصَّل من ذلك كله، أن هناك حالات بحسب اجتماع بذل المال مع المنطق الحسَن وافتراقهما:

أ - أن يجتمع بذل المال مع المنطق الحسن، وهو الغاية.

ب - أن يُبذل المال من دون منطق حسن «ولا سيِّئ»، وهذا جيد، لكنه قاصر من جهة.

ج - أن يبذل المال مع منطق سيِّئ، وهذا إبطال للعطاء؛ لأنّ فيه إيذاء. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى[البقرة: 264].

د - أن لا يُبذل المال، لعدم الاستطاعة، أو لعدم إمكانية الوصول إلى المحتاج، مع المنطق الحسن، وهذا فيه أجر وثواب. عن رسول الله ﷺ: «يا أبا ذر، الكلمة الطيبة صدقة» [بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، 74/ 85].

ه - أن لا يبذل المال بخلًا وحرصًا، مع المنطق الحسن، وهذا مرجوح من جهة البخل، فإنه صفة ذميمة.

و- أن لا يبذل المال بخلًا وحرصًا، مع المنطق السيِّئ، وهذا أسوأ الحالات.

ونحن على أعتاب الشهر الكريم، شهر الله، الذي تُضاعف فيها الحسنات، ما أحوجنا إلى العطاء بجميع أنواعه: بالمال، وبالكلم الطيب الحسن، فننثر الورود في الطريق، لينتشر عبقه في جميع الأرجاء.