«لِمْبَنِي حَرَّه.. ولُو هي جَرّه..»
في العصورِ الغابرة، حيثُ البساطةُ آسرَة، قسوةُ الحياةِ فيها آمرةٌ ناهرة، وبيوتُ الناسِ وقتها متجاورةٌ متناثرةٌ، نهارهم للمعاشِ، وليلُهم في الرياشِ، يشتغلونَ من الفجرِ حتى الأصيل، وينامونَ بعد العِشَاءِ بقليل، أطفالهم من ”غبشةِ الغبّاشِ“ كالعفاريت، وفي الليل يهجدونَ صفاً كالكباريت، بيوتُهم صغيرةٌ وقلوبُهم كنفوسِهم كبيرةٌ..
يحكى أن زوجينِ فتيينِ كانا يعيشان عيشةً وادعةً وديعة، في ”السدرةِ“ أو ”البديعة“، إلاّ أن المرأةَ المصونة لم تكن عاقلةً أمينة؛ حيثُ كانت تصولُ وتجولُ، وكأنّها من ربّاتِ الخيول، لا يَقرُّ لها قَرار، ولا تركنُ في الدار، تُهملُ أعمالَ البيتِ، وبَعْلُها يتحسّرُ بليتَ وليت، تُحوّمُ من جارٍ إلى جار ولا تعودُ حتى آخِرَ النهار، تكرّكرُ كرّكرة، وتبرّبرُ برّبرة، ولا تتخلى عن الهدرةِ والثرثرة، تردحُ وتفصفصُ، وتطحن وتفسفسُ، وتراقبُ وتعسعسُ ”تسأل عن البنت وبت البت والولد من قمطه“، وإن عادت بعد لفِّتها الصباحية، ودورتِها الانبطاحية، تطبخُ بتثاقل شيئاً من الهريس او قليلاً من الجريش لينطمَّ زوجُها متكدرا، أو ”يتحرطمَ“ متذمرا.
حتى ساءت أحوالُ المسكينِ كمن يُطعنُ كلَّ يومٍ بسكين، فأحبَّ ان يلقِنَها درسا ويثيرها حِسَا؛ فاغرى بعض أطفالِ الفريق ”بالقروش“ و”المتاليك“ وأعطاهم شيئاً من الشموعِ و”الأتاريك“؛ ليصدحوا ”بالجلوات“ والأغاريد ويزغردوا بالدفوف والزغاريد..
ثم هروّل إلى داره الصغيرة، فانبرى إلى جرّةٍ كبيرة؛ فألبسها ثوباً هاشمياً مُزررا، وسِروالاً خُرّافيّاً مشجّرا، ولفّعها بمِلّفعٍ مطرّز ومُخرّمٍ ومخرّز، ثم غطّاها بالردى ولم يكن الناس بالعباءة يومئذ على هدى، وهيَّأ المشامِر السبعةَ المزركشة، والملابسَ المبرقشة، ولم ينسَ ”الرُومَال“، ولم يغفلْ عن ”الدِسمَال“، ووضع بجانبها صُندوقا، ومِرَشَةً وزينةً و”بستوقا“.
فبانت الجرّة كعروسٍ حَسناء، تَشعُ بالسحرِ والسَناء، ثم عطرّها ”بالرازقي“ والعطور وبخرّها بالعود والبخور، واسندها على ”النگيلة“ حتى وصلَتِ الخليلة!!
عندها تخيّلت أنَّ العرسَ للجيران، أخزى الله الشيطان، إلاّ أنّها - وفؤادها دليلها - خفقَ قلبها وكاد أن يطيرَ لُبّها، وما إن دخلت حتى رأت المنظرَ البهيج، فهاجت المرأةُ بالضجيج، وأزبدَت وأرعَدت، واعولت وولولت، وجُنَّ جنونها، ونطَّ شيطانُها، ونشُطَ من عقالهِ عفريتها، شامِخةَ الوجه، مكفهرّة الطالع، ولولا لطفِ الله لماتت من الحنقِ والغيظ.
وكان الزوجُ في الدار، ينظر إليها ببرود، ويراقبها بجمود.
فَرَاغت مسرعةً للجرّة بالقَادوم، فسبقها زوجُها للهدوم، نازعاً لباسَ الجرّة، فتلاشت ملامح الضّرة، وهو يقول:
”هاذي غير جرّة أئه..“
فهدأت من ثَورتها العَارمَة، وانطفأت النارُ الحاطّمة، وقفز من لسانها بارتياح:
”أهوه.. لِمْبَنِي حَرَّه.. ولُو هي جرّه“
فضُربَ مثلا وازالَ بحنكته زللا وطوّدَ بفطنته جبلا، وطاح الحطب، وما عادت للشغب..
فيا أيها الأحباب حافظوا في الحياة على اللباب.
الزوج للمرأة وطن، والزوجة للرجل سكن «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»
والزواج نعمة وسعادة فلا تكن نَقِمةً وعادة.
ويا أولو الألباب عليكم بالصراط القويم
﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾..