آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 11:15 م

اليوم.. تأملات في البناء الزمني للحياة

زكريا العباد

اليوم، هو تلك المساحة الغالية من الزمن، هي وحدة بناء أعمارنا. ولكننا إذا نظرنا للحياة بعيدا عن منظورنا الشخصي، فسنجد أنها أكبر من مجرّد أعمارنا، فالحياة تمضي رغم انقضاء أعمارنا وتوقفنا عن التنفّس!.

فلا بدّ إذا من أن نعيد تعريف ”اليوم“ لنقول: هو وحدة بناء الحياة. ولكن، هل تمتلك الحياة معنى بدون أعمارنا الشخصيّة؟ تُرى، من هو هذا المتأمّل في معنى ”اليوم“ في هذه اللحظة؟ ألسنا أنا وأنت؟ نحن إذا من نمنح هذا الشروق والغروب المتواليين هذا المعنى الذي نحاول اشتقاقه الآن، نحن الكائنات الواعية، أيا تكن درجة وعينا وطبيعتها، وبدوننا سيتحوّل هذا النظام الكوني، الذي يخلق بدورانه مفهوم الزمن، سيصبح أجوفا ومسطحاً.

نحن، أي الكائنات الواعية، من نمنح هذا النظام معناه، ولا أقل من أن نقول: نحن الذين نتلقى هذا المعنى الكامن في نظام الكون، ونحن الذين نجعل لمعناه قيمة أكبر من خلال تلقينا له، نحن الذين نستمع لصوت الكون ونتفاعل معه.

إذا، لا بد من أن نُعرّف هذه الوحدة من الزمن المسمّاة ”يوم“ من خلال تفاعلنا معها، لا بغض النظر عن وجودنا. وحين نفعل ذلك، فنحن ندخل إلى مساحة فيسيولوجيتنا وسيكولوجيتنا، يدخل نومنا في تعريف اليوم، تماما كما يدخل الليل وظلامه في تعريفه، يدخل شعورنا بهذا اليوم في تعريفه أيضا، ويدخل وعينا وتعقلنا، وتدخل قدرتنا على التجريد وخلق المفاهيم.

اليوم والطبيعة المشتركة

وحين نبدأ في تخيّل ”اليوم“ كوحدة بناء لأعمارنا، فعلينا أن نتساءل أولا: لماذا نفكّر فيه كوحدة بناء بالذات؟ لماذا لا يكون أي شيء آخر غير وحدة البناء ”الطوبة“؟ والجواب يأتي بديهيا من تفكيك البناء الأكبر إلى أجزاء أصغر.

ولكن، وبطبيعة الحال، لا نهاية للتصاغر، ولا نهاية للتعاظم والتكابر، فليست الساعة، ولا حتى الثانية هي البداية، وحين نشرع في تصور الوحدات الأكبر يقابلنا الأسبوع والشهر والسنة والعقد من السنوات، وبينها أجزاء أكبر وأصغر تمتدّ في مساحة الأعمار.

فهل تمّ انتخاب اليوم كوحدة بناء بشكل اعتباطي؟ أم أن النظام الطبيعي لعب دوراً في انتخابه؟ وهل من الخطأ تحديد اليوم كوحدة لبناء الأعمار؟

يبدو لي أنّ في اليوم سمات تجعله أكثر جدارة بأن يكون المرتكز الأهم في تحديد طبيعة بناء الأعمار وهندستها، فمن ناحية كونية يحتوي اليوم على دورة كونية، أي دورة للأرض حول نفسها، وفي الوقت ذاته يبدو الإنسان ومعه معظم الكائنات وكأنها دارت حول نفسها حين نامت واستيقظت، ثمة تناغم بين حركة الكون وحركة الكائنات بدا من خلال هذا اليوم، ثمة تقابل بين اليقظة والنهار، وبين النوم والليل. ثمة دورة قد اكتملت على مستوى الكون وعلى مستوى الكائن الواعي في ذات الوقت. وهذه السمة لا تتوافر على مستوى الوحدات الزمنية الأخرى.

ففي حين يبدو اليوم تنظيما طبيعيا للوقت يتوافق مع نظام الطبيعة، يبدو الأسبوع كنظام اعتباري، أو على الأقل أقل طبيعية من نظام اليوم، في حين يبدو الشهر تنظيماً طبيعياً للوقت ولكنه وحدة كبيرة قياساً باليوم وأكثر تعقيداً، فاليوم هو أكثر الوحدات الزمنية بساطة وملاءمة لطبيعة وفيسيولوجية الإنسان.

وحدة بناء هندسي

لو تخيلنا حياتنا الشخصية كبناء، فيمكننا تخيّل اليوم ك ”طوب“ يشكّل مجموعها مجموع ومجمل هذا البناء، وقد تحدثنا عن مبررات اختيار اليوم كوحدة بناء، وبقي أن نتعامل مع الإشكالات التي تنبثق عن هذا التشبيه، فهل ينبغي أن نتخيل أعمارنا كبيت مثلا؟! أو كمبنى بغض النظر عن استعمالاته؟ وهل ينبغي أن نتخيّل العمر كمكان بُني بفعل الطبيعة كالكهف مثلا أو نتخيله وقد بني بفعل الغريزة الطبيعية كعش العصافير أو كأنفاق الحشرات وجحور الزواحف؟ ولماذا، من الأساس، يحوم خيالنا حول تخيّل العمر كمسْكن ومأوى؟ وكيف يصبح العمر مأوى وهو مفهوم مجرد؟! كيف يصبح الزمان مكاناً؟!

فلنحاول الآن التعامل مع هذه الأسئلة، لماذا ينبغي أن نتخيّل أعمارنا ك ”بيت“ ؟ والجواب الذي أقترحه أن هذا ضروريّ باعتبار أن الإنسان مجبول على إلباس المجردات أشكالاً من أجل تصوّرها، فهذا يسهّل عليه استيعاب المفاهيم، فما هي القضية؟ وما هو المفهوم الذي نحاول استيعابه الآن؟ إنها علاقة اليوم بالعمر، وهي علاقة جزء بكلّ، كيف يسهم اليوم في بناء العمر؟ وما هو شكل الناتج الكلي؟ نحن نتصوّر بسهولة مفهوم اليوم، فهو أقرب إلى عيوننا ورؤيتنا وأذهاننا، ولكنّ مفهوم ”العمر“ هو أكثر تجريدا ولطفا.

هذه خطوة واحدة، أي أني بررت الآن مغزى تشبيهنا العمر بشيء مرئي، ولكنني لم أبرر تخصيص البيت بالتشبيه، إذ يمكن أن نتصوّر العمر كأي كلّ له أجزاء متككرة تبنيه، مثل شجرة تبنيها خلايا، أو غير ذلك.

في الحقيقة هذا الاعتراض صحيح، كلّ ما أودّ قوله هو أن العمر له شكل هندسي يمنحه هويّة تماماً كما يفعل شكل الشجرة وشكل المنزل، ومن المهم أن يكون لهذا الشكل الهندسي حدوداً تفصله عن غيره وتمنحه تميّزه وتبرز هويّته، كما أنّ هذه الحدود هي في ذات الوقت مناطق عبور وتفاعل بينه وبين بيئته.

نعم هذا صحيح إلى الآن، ليس ثمة مبرر لتفضيل خيار مجسّم المنزل على مجسّم الشجرة، ولكننا إذا أخذنا في الاعتبار كوننا بشراً عاقلين فسيكون نموذج المنزل أكثر مناسبة من نموذج الشجرة أو الكهف باعتبار أن الأخيرين يعبّران عن نموذج البناء الطبيعي، في حين يمثّل العش والجُحر نموذج البناء الغريزي. فإذا كنّا نتحدّث عن كائن عاقل هادف يمتلك ما هو أبعد من الإمكانيات الطبيعية والدوافع الغريزية، فإنّ هذا يبرر أن يكون النموذج الممثل لعمر الإنسان نموذجاً يستحضر الجوانب العقلية والهدفية والتخطيط والذوق والجمال، إضافة إلى الجوانب العاطفية والعريزية، وهذا يتوفر أكثر في نموذج المنزل.

وثمة جانب نفسي آخر في تخيّل العمر ك ”بيت“، فمنح المفاهيم المجردة هوية وتعريفا وشكلا هو نوع من السكون و”الإسكان“ لها والإقرار لها وحمايتها، أو لنقل: إخراجها من حالة التبعثر إلى حالة التعريف، فالتعريف إذا سكن أو منزل، فما بالك إذا كنت تريد أن تبحث عن تعريف ومعنى لعمرك؟ إن التعبير عنه بالمنزل مناسب جدا. فالأعمار مبعثرة في الزمن، وتحتاج إلى مسكن وسكينة، يجب أن تلمّ عمرك في مسكن لكي لا يضيع ويتبعثر، ينبغي أن تلملم ساعاتك في اليوم، وأن تنظم أيامك في سلك الأسبوع، وأن ترتب أسابيعك في الشهور، وترصف شهورك في سنوات عمرك، لتنهي إلى عمر جميل ومنظم ومفيد، وسيتضح لك شكل البناء الذي يمنحك هويتك كلما كبرت، وحين تغادر سيأخذ عمرك شكله النهائي، وأنت الذي سترى هذا الشكل النهائي، سواء لاحظه الآخرون أم لم يتمكنوا من رؤيته.

النوم واليوم

النوم هو طبيعة فسيولوجية للحيوانات تقابل الليل وظلامه، ولكن النباتات أيضا تستجيب طبيعتها لتقلب مزاج اليوم بين النهار والليل، نحن نستجيب للظلام ونصبح أقرب إلى الهدوء والراحة في حين نستعيد مع الضياء نشاطنا وحركيتنا، ولا يتوقف الكون عن الحركة حين ننام، فلسنا مركز ومدار الكون كما قد نتوهم، ففي النصف الآخر من الكرة الأرضية ثمة نهار وحركة، والأرض بمجملها تدور وتتنقل بنا في هذا الكون الفسيح ولا تنتظرنا حتى نصحو.

النوم قضية تستحق التأمل من حيث شمولها لجميع الكائنات وارتباطها بالظلام، إسدال ستارة المسرح على النهار يشي بانتهاء مشهد وابتداء مشهد آخر، يهيؤنا الظلام لكي نغمض عيوننا عن المشهد الذي نسمّيه ”الواقع“، لندخل من خلال جبر الطبيعة إلى مشهد آخر تتفتح أعيننا عليه هو عالم النوم أو عالم الأحلام، فما الذي يحدث حين ننام؟ ولماذا نستعيد نشاطنا وحيويتنا ويذهب تعبنا؟ كيف يغسل النوم تعبنا وإرهاق أرواحنا وأحزانها؟ وكيف صممت الطبيعة نظاما يناسب بقاءنا وتجدد طاقتنا على مدى أعوام أعمارنا التي سنقضيها قبل أن تنتهي أعمارُنا؟ وما هي علاقة النوم بأعمارنا أو بشكلنا النهائي التي ستتشكل صورته الأخيرة مع انقضاء أعمارنا؟

أسئلة كثيرة، غير أن أهمها وأكثرها ارتباطاً بموضوعنا هو سؤال ارتباط النوم بتكوين الصورة النهائية للعمر. والجواب المألوف هو أن تنظيم النوم هو تنظيم الحياة، وأن كفاية الفرد من النوم تضمن له اعتدال المزاج ووفرة الإنجاز، وبالتالي فإن تراكم الإنجاز سيؤدي إلى تحقق المنى والأحلام. وبهذا تحقق الحياة نوعا من التوازن بين تفويت متعة حالية وتحقيق مكسب مستقبلي، فالليل بيت الأنس واللذة تماماً كما أنه زمن مناسب للتعلم والإنجاز الفكري، فالطامحون في اللذة والطامحون في إنجاز المعرفة أو المجد، كل هؤلاء المختلفون يجدون في الليل وقتاً مناسباً لتحقيق مآربهم المتباينة.

غالب ما تقدّم يقوم على فكرة بناء العمر من خلال استثمار مفهوم ”اليوم“، ولكننا لم نناقش أثر الرؤية الكونية للإنسان على هذه التصورات، فاختلاف رؤيتك لبداية الكون ونهايته قد يقلب المعادلة رأسا على عقب. ثمة فلسفة معاكسة تماما سنختم بها، وهي أن العمر هو اليوم، فلست تدري إن كان لديك يوم آخر ستعيشه، وهي فلسفة ستوسوس للإنسان الطامح لبناء عمره من خلال رصف الأيام بطريقة منظمة ومخطط لها، إنها الفلسفة التي يحبها الكثير من الشعراء، و في المقابل لدينا المقولة التي تطالب الإنسان بفتح جميع الاحتمالات والموازنة بينها: ” اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا“.

أترككم الآن مع فلسفة اغتنام ”اليوم“ باعتباره ”اليقين“ الوحيد، والتي تتمثل أحسن تمثيل في أبيات الشاعر الخيام التالية:

سمعت صوتا هاتفا في السحر نادى من الغيب غفاة البشر

هبوا املأوا كأس المنى قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ القدر

لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآت العيش قبل الاوان

واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الامان

غدا بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن في المقبل