آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 3:01 م

حنين في زمن الكورونا

هدى الغمغام *

أصبحت كل الصباحات متشابهة، وكذلك المساءات التي تأتي على استحياء، في كل يوم يتبدد فيه الأمل ويشتد فيه الانتظار.

كانت أم أحمد تحفظ أيام الإسبوع جيداً، تعدها عداً، وتتحين اليوم الذي يجمعها بأبنائها، أما اليوم فقد أصبح كل جديد بالنسبة لها، ليس بجديد.

رتابة الوقت له طعمٌ مر، والحديث صار أكثر مللاً، الترقب أصبح طويلاً، طويلاً، والأمل بقدوم الغد يخفت نوره، قلبها المنتظر أصبح يخفق بقوة، هناك هاجس يخيفها، وترجوا من الله أن يزول؛ لتمضي تلك الأزمة بسرعة دون خسائر كبيرة ترهق العباد والبلاد.

وجع الاشتياق للأهل والأبناء ليس بالأمر الهين، في البداية كان القرار أن تعزل منطقتها ”القطيف“ لمدة إسبوعين، كان الأمر غريباً ومفاجئاً، لكنها تقبلت الموضوع لأن حالات الإصابة بالفيروس بدأت تظهر والوضع يتطلب الحذر.

إسبوعان، لا بأس! ستمضي الأيام بسرعة وستنجلي الغمة، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقا، هذا ما حدثت به نفسها، لا بأس... إن أبنائي يسافرون خارج البلاد لمدة إسبوعين أو ثلاثة، سأعتبرهم في سفر لن يطول.

الأمل بالله والتسليم بمشيئته، هذا ما اعتادت عليه تلك المرأة الرؤوم، التي تعتبر عائلتها هي عالمها الكبير، وكل حاجتها من الدنيا، هم روحها التي بين جنبيها، وعيناها التي تنظر بهما سعادة الحياة وراحة البال.

بعد مضي الإسبوعين، لم تكن الأوضاع سانحة بإزالة العزل عن المنطقة، لأن حالات الإصابة بفيروس كورونا بدأت تزداد شيئاً، فشيئاً هذا عدا ظهورها في مناطق أخرى داخل السعودية، مما أضطر الحكومة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة في مواجهة خطر الفيروس.

باتت أم أحمد على أمل أن تزول تلك العوائق التي حالت بينها وبين أبنائها، لكن الصباح لم يكن يحمل لها ما رجته، فقد صدر قرار جديد في ساعة مبكرة من صباح ذلك اليوم، يفرض حظر التجول داخل المنطقة التي تسكنها.

هذا ما فوجئت به في صباحها الذي كان مفعم بالتفاؤل وشارات الفرح، لكن سرعان ما تحول كل شيء لكابوس ثقيل جثم على صدرها، ليبتلع ما بقي لديها من أنفاس خافتة، ترورقت عيناها بالدموع وهي تطالع الرسائل المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، يا إلهي، ما العمل؟ حقا لم أعد أحتمل!

احتارت أم أحمد في أمرها، أتصبرُ نفسها، أم تصبرُ أبنائها؟

لدى أم أحمد شابان يسكنان خارج المنطقة، أحدهما يعمل طبيباً مختصاً بالأمراض الوبائية في مدينة الدمام، والآخر يعمل في مدينة الجبيل في شركة أرامكو، هما لم يعتادا على قطيعتها لأنها متنفسهما الوحيد بعد إسبوع كامل من العمل المتواصل، حيث يلتقيان بأفراد عائلتهما في كل يوم جمعة، يقضيان مع والديهما النهار كاملاً، يعوضان فيه كل ما فاتهما خلال أيام العمل، هذا رغم أنهما لا يوفران أي فرصة تسمح لهما بالمجيء إلى بيت العائلة خلال أيام الإسبوع، وبحسب ما تتيح لهما الظروف فعل ذلك.

هذه المرة كانت الأوضاع مختلفة جداً، لا أحد يستطيع عمل شيء أمام هذه المستجدات الغير متوقعة، التي فرضت على الجميع قوانين جديدة، لذا كان عليهم تقبلها برحابة صدر، فالمصلحة العامة هنا تقتضي الإذعان والتسليم.

بداية كانت أم أحمد تسلي أبنائها، وتخفي عليهم ما تشعر به من وحدة وألم وضيق، كانت تبدي لهما أنها سعيدة باتصالهما بها، وبمهاتفتهما لها، لكن مع مرور الوقت، أصبحت لا تقوى على رؤيتهما وأطفالهما من خلف شاشة الجوال. كانت تتحاشى النظر إلى عيونهم المكتظة بالشوق، تتهرب من الحديث عن موعد اللقاء الذي لا يستطيع أحد منا تقديره، كانوا يشكون إليها الحال، فتضطر لكتم مشاعرها كي لا تزيد همهم هماً، تبكي بينها وبين نفسها.

في البداية قالوا لها: لا بأس يا أمي، إنها مجرد إسبوعان، سيمضيان سريعاً وستعود الأمور إلى ما كانت عليه، دعينا نتحمل، ثم اكتشف أبناؤها طريقة جديدة للإلتقاء بها، علَّها تخفف قليلاً من وجع الاشتياق، فقاموا باتصال جماعي كي يَشعروا أنهم مازالوا على عادتهم السابقة، وأن الجمعة السعيدة التي يلتقون بها، ما زالت مستمرة، كان اللقاء مباشراً، الكل يتحدث، الكل متحمس كي يدلي بمشاعره ويعبر عن مدى الحسرة والضجر الذي يعاني منه، والألم الذي ينتابه في ظل هذه الظروف الحرجة.

دارت بينهم أحاديث شتى، كانوا يعون جيداِ خطورة الوضع، وأن هذه القرارات لم تأت عبثاً، فالحكومة لم تقرر عزل المدن اعتباطاً، بل من منطلق خوفها وحرصها على سلامة مواطنيها.

هذا الأمر استوعبه البعض، لكن الأغلبية ربما لم يتقبلوا قساوة تلك القرارات، نعم، إنها قاسية عندما تفرق بين الأم وأبنائها، قاسية عندما تشطر قلباً حانياً لنصفين.

حيرة وفزع ينتاب الوالدة أم أحمد، عين هنا وعين هناك، شعور بالتشتت يملأ قلبها العطوف، وانكسار كبير، يجعلها تعاني، فكل صباح يأتي يكتبها قصة جديدة، بذكريات تملأ منزلها أحاديث وضحكات وفرح، ثم دمعة حارقة تنحدر على وجنتيها، تخبرها بأنها أصبحت وحيدة، كيف تقضي على هذا الشعور القاتل، فثمة أفكار سوداوية تهيمن عليها، تتساءل أحياناً، "أيكتب لي أن أجتمع بهم ثانية؟

ربما يستخف البعض بطريقة تفكيري! لكنني أم"، هكذا كان حالها، الوقت لا يمضي كما كان في السابق، النهار رتيبٌ وبارد، والليل يعج بالأفكار، لولا التعب ما غمض لها جفن.

الحصار اشتد بعد أن أصبح حجر التجول شبه كامل، لقد طوقها من الداخل والخارج، لا أحد يزورها منذ فترة طويلة، لا أحد سوى جدران صامتة، تنصت لتنهداتها العالية.

ها هي تجلس في غرفة المعيشة، المترامية الأطراف، تتأمل المكان وهي تأخذ رشفات متباعدة من كوب قهوة ساخنة تضمه إليها، تنظر يمنة ويسرى، تنصت للأصوات الوافدة من حولها، كل شيء ساكن، كل ما حولها قاتل، صمت رهيب، لا أثر يذكر في الداخل ولا في الخارج، الشوارع خالية من المارة، الطرقات موحشة، لا شيء يتعالى صوته سوى دقات هذا القلب.

تأخذها الأفكار بعيداً حيث كانوا، فيقتحم مُحيا أبنائها معترك الذكرى، ليرسم ابتسامة خفيفة على شفتيها الملأى بالتساؤلات.

تنفض رأسها بعد أخذ جرعة من الراحة، لتستفيق على ما هي عليه، تضرب رأسها بكلتا يديها وتصرخ صرخة مدوية، توقظ ضمير كل حي... إلى متى؟

ثم يعم الصمت أرجاء المكان، تنفجر بالبكاء، تشعر أنها في سجن حقيقي، ثم تتذكر ما يجري في البلدان الأخرى، تطرق برأسها إلى الأرض، ثم ترفعه ثانية، ثم ترخي رأسها على ركبتيها لتطلق تفكيرها خلف أسوار المكان، تتمتم بينها وبين نفسها، ماذا لو كانوا بقربي والخطر يحاصرنا جميعاً، هم بخير وهذا يكفي، سوف أقنع نفسي أنهم في سفر، لكنهم بخير، سأوقف التفكير السلبي الذي يسيطر على رأسي، وذلك الإحساس البشع الذي يدب بين أضلعي، لا أنكر أني خائفة كثيرا، فابني الدكتور أحمد عمله يتطلب مخالطة المصابين، مما يجعلني قلقة عليه، لكنه في المقابل يقدم واجباً نحو وطنه وأنا فخورة به، وابني حسن يمارس عمله وهو معرض للخطر أيضاً، لكنه يخدم قطاعاً هاماً من القطاعات الحيوية في البلد وهذا يسرني.

نعم، هم بخير، هم بخير، سأتحمل وجع الحنين إليهم، الله أكبر، صوت الأذان ارتفع معلناً عن قدوم صباح جديد، صباحٌ محمل بالثقة بالله والتوكل عليه، الله أكبر، بإيمان وعزم سنبقى صامدين، سنتغلب على هذه الأزمة بإذن الله، سيأتي يوم نحدث أحفادنا الذين لم يشهدوا الواقعة عما عانيناه فيها، فجميعنا اليوم يجاهد بطريقته، جميعنا يخدم الوطن بحسب مكانته، كلنا يد واحدة في الأزمات.

لملمت أم أحمد أوجاعها، حزمت صبرها، ربطت جأشها، ثم وقفت وكأنها جندي يقاتل في ساحة المعركة، سلاحها اليقين بأن القادم أجمل، وأن الله سيوفي الصابرين، والمجاهدين أجورهم بأحسن ما عملوا، هتفت بصوت ملؤه الفخر: جميعنا مسؤول، جميعنا أبناء هذا الوطن المعطاء، حقا... ”كلنا جنود“.