القرار المصيري
تمرّ بنا محطاتٌ من حياتنا تضعنا في مواقف حرجة، ومطلوبٌ منّا اتّخاذ قرارات مصيرية فيها، وهذه القرارات سترسم مستقبل حياتنا، وهنا مكمن خطورتها.
البعض قد يتّخذ قراراته المصيرية بطريقة عفوية ارتجالية دون دراسة وتخطيط؛ والبعض الآخر يوكل المهمة للآخرين، ليُعلّق إخفاقاته المستقبلية على غيره؛ والبعض يجعل الأمر مرهوناً بحالته المزاجية في لحظة اتّخاذ القرار المصيري؛ وكل هذه الطرق ليست ناجعة، بل قد تُسبب فشلاً ذريعاً في المستقبل، وتكلفتها ستكون باهظة جداً.
في بادئ الأمر عليك أن تؤمن بأن اتّخاذ أي قرار مصيري بطريقة عفوية أو وفق الحالة المزاجية سواءً كانت رضاً مفرط أو انفعالاً غاضب ينبغي عدم الأخذ به مطلقاً إلا بعد محاكمته بالعقل والمنطق.
وعليك أن تؤمن بأن رأي الآخرين ليس بالضرورة أن يكون سليماً، فالاستشارة مطلوبة، مع تحكيم العقل والمنطق، كي يكون اتّخاذك لقراراتك بإرادةٍ منك. لأن المسؤول الأول والأخير عن أي قرار تتخذه في حياتك هو أنت.
وعليك أن تؤمن بأن بعض القرارات إنما يكون أثرها لوقتٍ معين، كأن تقرر شراء سيارة معينة دون غيرها، فهمها طال أثر هذا القرار يبقى محدوداً بوقتٍ وضمن زاويةٍ معيّنةٍ من حياتك. ولكن بعض القرارات يكون أثرها باقٍ حتى آخر لحظةٍ من حياتك، والتراجع عنها ليس بالسهولة، لأنه قد يكلّفك ثمناً باهظاً جداً يكون أثره باقٍ في حياتك، وقد يؤثر على أجيالك القادمة أيضاً.
وأعني بالقرارات المصيرية تلك القرارات التي ترسم مسيرة حياتك المستقبلية، كاختيار مسارك الأكاديمي، أو اتّخاذ قرار زواجك، أو تحديد وظيفتك المهنية، أو رسم مسار حياتك، أو تعيين رسالتك ودورك في الحياة. وقد يكون قرارك المصيري متعلّق بإنهاء قرار مصيري سابق. كل هذه القرارات وأشباهها من القرارات المصيرية والتي يكون أثرها مرتبط بك طيلة حياتك، بل قد يتجاوزك ليؤثر على محيطك الأسري والاجتماعي، تستلزم منك أن تقف وقفة تأمل واعية، وأن تقرأ ذاتك والمستقبل قراءة معمّقة فتتخذ على إثر ذلك قراراتك المصيرية بوعيٍ وإرادة.
وأشير هنا إلى مجموعة من النقاط التي ينبغي الوقوف عندها حين اتّخاذ أي قرار مصيري:
أولاً - حين تريد أن تقرر قراراً مصيرياً عليك أن تقف مع ذاتك وقفة صادقة وجريئة وحاسمة لتتيقن من حقيقة تلك الدوافع التي تدفعك باتّجاه اتخاذ ذلك القرار المصيري، وعليك أن تكون صادقاً مع نفسك، فمخادتعك لذاتك في قراراتك المصيرية ثمنها حياتك. ولذا تأمل جيداً وقرر بعيداً عن المثاليات، فلست مثالياً ولا معصوماً فلا تدّعي لنفسك مرتبةً لست منها.
وحتى تصل لجواب حقيقي، جرّد نفسك من كلّ المؤثرات الخارجية واسأل نفسك: لماذا أريد أن أتخذ هذا القرار المصيري: هل بحثاً عن الأمان؟ أم رغبةً في مضاعفة الاستمتاع؟ أم طلباً لموقعيّةٍ اجتماعية؟ أم طمعاً في الثراء؟ أم تجسيداً للقيم الإنسانية؟ أم تحقيقاً لرسالةٍ ودورٍ في الحياة؟ أم رجاءً لنيل رضا الله والفوز برحمته سبحانه وتعالى؟
وهذا يكشف حقيقة الوعي الذي يرتبط بقرارك المصيري، فقيمة قرارك مقرونةٌ بمستوى وعيك، وذلك يُحدد طبيعة تعاملك المستقبلي في إطار المجال الذي اتّخذت من أجله القرار المصيري.
ولذا كن واعياً بدوافعك، وكن أميناً مع ذاتك، كي ترسم لمستقبل حياتك واقعاً حضارياً متألقاً بما تمتلك من وعيٍ ذاتي.
ثانياً - بعض القرارات المصيرية لا يقتصر أثرها على ذاتك فحسب، وبالتالي عليك أن لا تكون أنانياً في قراراتك، بل ينبغي عليك أن تدرس جوانب تأثير قراراتك على الآخر المهم في حياتك، وبعد ذلك قرر ما يكون في صالحك وصالح من يؤثّر عليهم قرارك بشكلٍ مباشر.
ثالثاً - في بعض الأحيان يستلزم قرارك المصيري أن تتعامل مع أشخاصٍ آخرين، وهنا عليك أن تكون يقظاً وحذراً في تعاملك مع الآخرين، فالبعض تكون نواياه طيبة لما يملك من صفاء نفسي، إلا أنه يواجه أشخاصاً خبيثين يستغلون تلك الطيبة لتحقيق نواياهم الخبيثة، ولا يمكن النجاة منهم إلا بمزيدٍ من الوعي والحذر. ولا يعني ذلك أن لا يثق أحدٌ بأحد، ولكن الثقة لا تتنافى مع أخذ الاحتياطات في اختيار من يكون معك في تنفيذ قراراتك المصيرية.
رابعاً - قد يسلم قرارك المصيري من وجود نوايا خبيثة لدى مَن يرتبط قرارك بهم، إلا أنه تبقى نقطة في غاية الأهمية وهي دراسة الظروف المحيطة ومدى قدرتك على تجاوزها، أو صبرك تجاهها. فالبعض يقدم على قرارٍ مصيري ثم ما يلبث أن يقول: لو كنت أعلم أن الظروف ستكون هكذا لم أقدم على هذا القرار. وهذه نقطة خطيرة ينبغي أخذها بعين الاعتبار، ولتجاوز ذلك يتطلب قراءة واعية لمستقبل هذا القرار، ووضع مختلف الاحتمالات الواردة، وخصوصاً الأسوء منها، ودراسة مدى قوتك في مواجهة مختلف الظروف، ولا يُعد ذلك تشاؤماً وإنما هو واحدة من أهم خطوات التخطيط الناجح، وهي مما يمنح قرارك قوة، وتمنحك عزيمة وإرادة في تنفيذه.
خامساً - عليك أن تضع هذه القاعدة أمام ناظريك دائماً وأبداً: ”أنا المسؤول عن عقلي، ولذا فأنا المسؤول عن القرارات التي أتخذها“، فلتكن على قدر المسؤولية، وتحمل بنفسك النتائج، مهما كانت.
ويبقى سؤالٌ مهم: ماذا لو حدث واتّخذت قراراً مصيرياً بعيداً عن الدراسة والتخطيط، وأنت تعيش نتائجه الآن؟ هنا عليك أن تؤمن بأن إرادة الله تعالى هي فوق كلّ الإرادات، فتسير في حياتك باطمئنانٍ نفسي، ثم عليك أن تنظر لمختلف الجوانب المحيطة بذلك القرار نظرة واعية وتضعها بين كفّتي ميزان لتُدرك بوعي أيَّ الكفتين ترجح: الإيجابيات أم السلبيات؛ فإذا رجحت الإيجابيات هنيئاً لك؛ وإذا رجحت السلبيات عليك أن تسأل نفسك عن مدى قدرتك لتحمل مواصلة الطريق وفق هذا القرار، فإن كنت قادراً على الاستمرار فبها، وإلا عليك أن تقرر إيقاف العمل بذلك القرار، لأن الاستمرار لن يكون من ورائه سوى مضاعفة الخسائر، وضياع عمرك في قرارٍ أنت تدرك اليوم فشله وعدم قدرتك على تحمّل نتائجه التي باتت ماثلةً أمامك. ويبقى هذا قرار مصيري أيضاً عليك دراسته بحكمةٍ ووعي، وفقاً لما تقدم في هذا المقال.
وأخيراً إذا أخذت كلّ الجوانب السابقة بعين الاعتبار، ودرستها دراسة واعية، أصبحت مؤهلاً لاتخاذ قراراتك المصيرية وأنت مستعدٌ لاستقبال نتائجها بعقلٍ منفتح.