آخر تحديث: 13 / 11 / 2024م - 1:09 ص

المعطف - نقولاي غوغول «2/2»

أمين محمد الصفار *

من المفارقة أن يغوص في اسبار هذه الطبقة المسحوقة بهذا العمق الداخلي الدفين واحداً من طبقة أخرى، بل من الطبقة النبيلة على أرض وفي زمن تمثل فيه الطبقية الأساس الاجتماعي الأول الذي ينظم الحياة. وحسناً فعل الكاتب في تمرير أطياف من المواقف الإنسانية الخيرة لتغيير طعم السوداوية التي تغلف الرواية، فعندما تبرع أحد المشرفين بإقامة حفلة بمناسبة المعطف الجديد، إنقاذ للموقف الذي وقع فيه أكاكي عندما طالبه زملائه في العمل بحفلة نظير المعطف الجديد أو الذي بدى جديداً بنظرهم، فيما كانت ردت فعل أكاكي المتعففة وكأنه يقول أنني لا استحق حتى حضور تلك الحفلة التي أقيمت لأجله، فهي لم يعتد في حياته على مثل هذه الأمور ولا يرى لها أي اعتبار في كوكبه الخاص.

دفعتني رواية المعطف لتذكر قصة معطفي أيضا الذي اشتريته مضطراً قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا أثناء رحلة في احدى دول الثلج، فبسبب تغير الجو فجأة للبرودة القاسية ونحن نتسوق في أشهر شوارع تلك المدينة وأنا بملابس صيفية، إضطررت لدخول اقرب متجر ملابس لأشتري معطفاً مناسباً لي، لكني لم اجد سوى بالأسعار التي قد تخلخل ميزانية تلك الرحلة بل وبلغة محاسبية قد تهز حتى الاحتياطات النظامية وغير النظامية لميزانية تلك الرحلة وقد تحرمني من حرية الحركة والاستمتاع بباقي مدة الرحلة التي كنت في أول أيامها، قررت عدم الشراء والخروج من المحل، ولكن لم استطع مقاومة تلك البرودة سيما وأن السكن بعيد عن هذا الشارع التجاري الفاحش الغلاء، مما إضطرني للعودة مرة أخرى وشراء ذلك المعطف على مضض.

القاسم المشترك بين معطفي ومعطف أكاكي هو أن معطفي مازل جديداً كما أراه انا وأريد أن احتفظ به لأبعد مدى، فما زلت أتذكر لحظة اختلاط برودة الطقس في جسمي بحرارة السعر في جيبي، فيما حبيبة القلب لها رأي أخر فيه، بأعتباره قديمًا لا يليق بي الآن، رغم ندرة أرتدائي له، وهي مازالت تتحين الفرصة للتخلص منه هو فقط!

مواقف كثيرة مرت على أكاكي تبعث على الحزن والأسف، فكيف لأنسان يعيش كل حياته في مدينة ولا يغير الطريق الذي أعتاد أن يسلكه من بيته لعمله طوال مدة عمله، للدرجة التي لم ير فيها الحي الراقي الذي بجانب حي الفقراء الذي يعيشه، وكيف لأنسان لا تحدثه نفسه أن يخاطبها ويطرح عليها تلك الاسئلة الجنونية وغير الجنونية، وكيف لأنسان لم يتحدث عن نفسه أمام إلا عندما وجد نفسه مضطراً للحديث أمام الضابط المهم الذي أراد أن يشرح له كيف سرق معطفه، وكيف وكيف وكيف.

لقد كانت لحظة سرقة المعطف من أكاكي تمثل منفردة جرعة زائدة للإفاقة من سبات تلك السنين، أما أن يكون مضافًا إليها السلوك الفظ وغير المتوقع من قبل الضابط الرفيع الذي ما أن تمت ترقيته حتى تغير كل تعامله الطيب، فهذا أشبه بسلاح كيماوي مزدوج التأثير عليه.

أن النفس البسيطة الممزوجة بالطموحات المتواضعة هي منتج هزيل وعقيم، لا يمكنها العيش لنفسها فضلا عن أن تكون لها القدرة وهي ميتة على مطاردة الأرواح الشريرة التي اصبح سكان سان بطرسبيرج يزعمون بأنها روح أكاكي.