عطلة كورونا
في سنة 1665م، طوق الطاعون العظيم مدينة لندن ومات بسببه 7165 شخصا في أسبوعه الأول. وقد بلغ العدد الإجمالي للوفيات 100000 شخص أي ما يقارب ربع السكان تقريبا حينها. وقد دفن ضحايا الطاعون في حفر كبيرة، وكان كثير من الرجال والنساء يقفز إلى داخل هذه الحفر ليُدفنوا أحياءً بدلاً من مواجهة آلام المرض. وقد هرب كثيرون خارج لندن. في تلك الأثناء، أغلقت جامعة كامبريدج أبوابها كإجراء احترازي مؤقت ما جعل طلابها في ذلك الوقت يعودون إلى منازلهم ويلزمونها حتى تنتهي الأزمة. وقد كان إسحاق نيوتن من ضمن طلابها. فاضطر نيوتن أن يلتزم بذلك فلا يغادر بيته مما جعله ينكب على دراسته وأبحاثه إلى أن تنفرج الكربة ويزول ذلك الطاعون. لزم نيوتن داره لمدة سنتين منهمكا في بحثه ودراسته ليخرج لنا بتطورات مهمة وكبيرة في حساب التفاضل والتكامل والبصريات وقانون الجاذبية.
فما رأته وحاولت الدفع إليه وزارة الصحة من لزوم البيت، إضافة إلى كونه من أجل تطويق المرض وحصره والحد من انتشاره واستشرائه، قد يكون فرصة لنا لإنجاز أمر عظيم قد لا تتاح مرة أخرى في مستقبل حياتنا كما حدث مع نيوتن كما ذكرت. فلزوم البيت قد يشدنا للقيام بشيء ذي قيمة في حياتنا طالما أجلناه وأخرناه بسبب الكسل أو الغفلة والتغافل عنه. فهذا الدفع المقصود والإجبار الإيجابي للبقاء والمكوث في البيت وعدم الخروج منه إلا في الحالات الضرورية جدا فرصة كبيرة لنقوم ونمارس بعض هواياتنا ونشاطاتنا البيتية التي لا تتطلب منا الاختلاط بالآخرين لآدائها. فنحن نستطيع مجالسة الكتاب لمدة أطول لنتعلم شيئا يطور من أنفسنا ويرتقى بمستوى تفكيرنا وسلوكنا وخبراتنا أو كتابة مذكرات أو خواطر كانت خامرة في الذهن ولكن تنتظر من يولدها ويخرجها للحياة. وكذلك، فقد يكون فرصة سانحة للخلوة مع النفس وإعادة الحسابات وتقييم ثم تقويم المسار الذي نسير فيه والتفكير فيما يمكن عمله لترميم وإصلاح أخطائنا وتحسين آدائنا ودراسة خططنا المستقبلية أو تعديلها. ولعل التاريخ مليء بالأمثلة والنماذج لأناس خلوا بأنفسهم كي يفكروا ويتفكروا في هذا الكون أو لكي يناجوا ربهم وهذا ما قرأناه عن النبي محمد ﷺ الذي كان يقضي جزءا من وقته في التفكر. وقد لزم بعض الشعراء والفلاسفة بيوتهم حتى لقبوا بألقاب تمت إلى تلك الملازمة بصلة كأبي العلاء المعري الذي لقب ب ”رهين المحبسين“، البيت والعمى، أو رهين السجون الثلاثة كما أخبر هو عن نفسه:
أراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ
لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ
فهذه العطلة هي وقت لنا ونملك حرية التصرف فيه بشكل تام. فإما أن نستغله استغلالا مفيدا وفعالا وإما أن ننفقه فيما لا ينفعنا أو فيما يضرنا. فهذه الحرية المقيدة بما لا يضر المجتمع والسلطة المسؤولة التي لا تخرق القوانين التي منحتها إيانا الحكومة ممثلة بوزارة التعليم ووزارة الصحة وغيرهما من الوزارات في التصرف في هذا «الوقت المجاني» لهو كنز يجدر بنا أن نستغله ونستثمره فيما ينفعنا قبل أن ينفد.
لا شك أيضا أن هذه الإقامة المجانية في هذا الفندق «البيت» هي فرصة للتعرف أكثر على ساكنيه الذين لم نحفل كثيرا بهم في الماضي لأننا نقضي وقتنا كله أو جله خارج البيت إما بسبب العمل أو بسبب المناسبات واللقاءات الاجتماعية أو بسبب كليهما معا. فنحن مثل سيارات المرور التي تمشط الشوارع في كل يوم والتي يقضي أصحابها يومهم في الشوارع والطرقات حتى أن الواحد منا لا يعرف عن أبنائه غير أسمائهم وأشكالهم بينما، وفي الوقت نفسه، يعرف الكثير عن الناس وأبنائهم. وقد تنبهت بعض الدول الأوروبية إلى أن الناس يقضون أوقاتا قليلة نسبيا مع أسرهم وعوائلهم بسبب العمل وغيره؛ ففرضت على المحلات التجارية وحتى الصيدليات، إلا القليل منها، إغلاق أبوابها أو التقليل من ساعات عملها في يومي السبت والأحد. فعندما تزور ألمانيا مثلا، ستلاحظ بأن أغلب الأماكن التجارية بما فيها أماكن التسوق مغلقة في يومي السبت والأحد من كل أسبوع إلا بعض الأسابيع المستثناة القليلة.
فالعودة إلى البيت وإعادة النظر إلى مفهوم المنزل والدار تغير كثيرا عن الماضي، فهو لم يعد مكانا للمرأة والأبناء وحدهم، بل انضم الأب إلى تلك المجموعة أيضا خاصة بعد التغيرات والقفزات التكنولوجية الكبيرة. فالعمل قد أصبح متاحا لك وأنت جالس في بيتك كما في كثير من الشركات التي ترحب بالعمل عن بعد خاصة حينما لاقت لهذا الأمر رواجا بين الناس الذين يسكنون بعيدا عن أماكن عملهم أو لا يستطيعون التنقل بسبب إعاقات أو أمراض حرمتهم من ذلك أو غير ذلك من أسباب. وكذلك، فإن التعلم والتعليم والتسوق عن بعد، بالإنترنت وغيره، لاقى صدى كبيرا بين الناس لمرونته من حيث الوقت والجهد والمال. وقد توجهت فئة ليست بالقليلة في بعض الدول المتقدمة إلى ما يسمى ب ”Homeschooling“ لأسباب دينية وغيرها. ففي أمريكا على سبيل المثال، مليونا طالب تقريبا وهو ما يشكل 3,4% من مجموع الطلاب الأمريكان والذي أقر في الولايات الخمسين كلها ممن يدرسون في منازلهم. وربما ما تقوم به وزارة التعليم في بعض المراحل هو تجربة ومحاولة أولى وجديدة لمثل ذلك التوجه. الواقع أنك عندما تجلس في البيت، فأنت لست معزولا عما يجري في الخارج إطلاقا وربما يكون العكس هو الصحيح. ففي بيت كل منا، تلفزيون وهاتف وكمبيوتر وإنترنت وغيرها من وسائل أخرى تجعلك في تواصل واتصال مباشرين مع كل من تريد وفي أي وقت تريد. فمفهوم العزل المنزلي يعني عدم تواصلك جسديا مع الآخرين الذين بإمكانك أن تتواصل معهم بكل وسائل التواصل الأخرى المختلفة. فهل لنا عذر بعد كل هذا بأن نتذمر ونتأفف من البقاء في البيت لمدة أسبوعين كما أوصت بذلك وزارة الصحة حفاظا على حياة الجميع؟