شكرًا كورونا فقد كشفتَ عن سوءاتنا
إذا عجز الإنسان أمام قوة ما، فإنه عادة ما يلجأ إلى قوة هي أعظم من تلك القوة أو يلجأ إلى مًن يسيطر على تلك القوة. هذا منطقي بطبيعة الحال وربما لن يختلف عليه الناس، ولكن ما بعد اللجوء إلى تلك القوة المسيطرة هو الذي اختلف وسيختلف عليه الناس كما هو الواقع. فلنأخذ مثلاً بعض الأمراض التي لا حول للإنسان فيها ولا قوة في علاجها، فبعض الناس يواجهها باللجوء إلى تلك القوة المهيمنة على الكون بما فيها الأمراض سائلا إياها أن تقيه شرها وبطشها رغم أن تلك القوة، وهي الإله عند المؤمنين، وضعت قوانين لهذا الكون الذي أبدعته وشاءت أن لا تغيٍِر في تلك القوانين أبدا. فالخالق أمر المخلوقين بأن يأخذوا بالأسباب التي وضعها لهم. نعم! هناك بعض الناس من يرى أن مبدع هذا الكون قد غيَّر من قوانينه في بعض الأحيان، ولكن وبالرغم من هذا الاعتقاد إلا أنهم متفقون بأن ذلك التغيير لم يحدث إلا في مرات قليلة جداً لمساعدة أناس اصطفاهم الخالق في تأدية رسالتهم كما في حالة الأنبياء ومعجزاتهم مثلاً.
وهذه النتيجة مبنية على استقراء التاريخ طبعاً. فالتجربة العملية تثبت أنه لو أنك تدعو الله ليلا ونهارا كي يجبر كسر ساقك؛ فإن ذلك لن يحدث أبداً لأنك لم تأخذ بالأسباب التي وضعها الخالق لمثل تلك الأمور. وربما يكون العجز أمام هذا المرض هو وراء ذلك النكوص واللجوء السلبي لله دون الأخذ بالأسباب التي أمر هو بالأخذ بها. فهذا اللجوء السلبي هو حيلة العاجز الذي أفلس من الأبحاث العلمية، وهي من الأخذ بالأسباب التي رسمها لنا مبدع هذا الكون، التي ربما تسهم في محاربة ذلك المرض والقضاء عليه. وهذا ما جعل البعض يتندر وربما يعني ذلك عندما طالب من أئمة مساجد المسلمين بأن يكفوا ويتوقفوا عن الدعاء على الكفار إلى أن يجدوا لنا دواء وعلاجا للكورونا. المهم أن ذلك اللجوء السلبي وتحدي العاجز لفيروس كورونا أُلبس لباساُ دينياُ، خاصة عند المسلمين العرب. فبدلاً من الوقاية التي لن تضرهم شيئا والتي يدعمها العقل والمنطق، عطلوا العقل وأعملوا الجهل فأهملوا وتهاونوا في أمر الوقاية متعللين بأنه «لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا» التي يوظفونها في الظروف المختلفة بل وحتى المتناقضة بحسب أهواءهم ومصالحهم. ليت شعري أين بعضهم من تلك الآية عندما طُلب منه أن يسلِّم نفسه للجهات المختصة ويعترف لهم بأنه في حاجة للفحص والتأكد من أنه غير مصاب بالكورونا. على العكس من ذلك، ترى بعضهم هرب من الموت، وهو في الحقيقة هرب إليه، بأن سد أذنيه ولم يصغِ لأحد لأنه لا يريد أن يسمع نبأً لا يحبه وبأنه ربما أصبح قريباً من الموت.
الحقيقة أن الإنسان يحار أمام هذا الأمر ولا يجد إجابة لعدم الحيطة والوقاية. هل هو فعلاً بسبب الخوف من الموت أم بسبب عدم الإيمان بالعلم وبالعقل؟ أو أن بعض المسلمين يظن بأنه مثل اليهود الذين يعتقدون بأنهم شعب الله المختار الذين اصطفاهم ولن يصيبهم بمكروه ولا بمرض أبداً. وربما أن هذا الاعتقاد والظن هو ما يراود بعض المسلمين المتدينين أو علماء الدين الذين كانوا يعتقدون أن ما حل بالصين هو بسبب كفرهم وجحودهم لنعمة الله. ولكن، ومن المفارقات، أن كورونا عندما وصلت به الرحلة إلى دول إسلامية وعربية، أجاب أولئك المتدينون والعلماء بأن ذلك ابتلاء من الله كي يكون كفارة لذنوبهم. أليس هذا التناقض دليلا سافراً على أن أبا جهل قد مات وترك ابنه ”جهل“ حيًا لنا لنرعاه ونتعهده في كل يوم كي ينمو ويكبر ويسودنا بمرور الأيام؟ لست أدري أي تلك الأسباب او التكهنات هو وراء عدم الأخذ بأسباب العقل والعلم من الوقاية والحيطة والحذر ولكن، لاشك أن ذلك في حاجة إلى متخصص في علم النفس كي يرشدنا لاحتمالات وإجابات لهذه التركيبة النفسية المتناقضة عند الكثير منا. ومهما يكن من شي، فإن الجميع يقر بأن الموت أمر حتمي وطبيعي جدًا وهو كالمعادلات الرياضية والمنطقية الثابتة التي لا تتغيَّر ولا تتبدل مهما كانت الظروف، ولعلنا لا نزال نتذكر أساسيات المنطق الأرسطي في القياس والعبارة المنطقية التي تقول، ”كل إنسان فانٍ، سقراط إنسان، إذن سقراط فانٍ.“ أو قول الشاعر العربي القديم:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ
فالموت حقيقة مؤكدة وإن كانت مرة، ولذلك لابد من التعامل معها كأي قانون طبيعي آخر دون هلع وخوف كبيريْن. ولست أدري لماذا ينتابني شعور مبني على تجربة شخصية وملاحظة ذاتية، ولكنها ليست علمية ومدروسة، بأن حجم الخوف والجزع من الموت عند العرب أكبر من غيرهم أو ربما مع المسلمين عموما. هل هو بسبب الحساب المنتظر أو عذاب القبر الذي يقره علماء المسلمين؟ أم هل أن الإيمان بالأسباب والقوانين الطبيعية عندنا ضعيف وفيه خلل وأن الأمل بأن يغير الله هذا القانون «الموت» أكبر من السبب الذي وضعه أو أن حجم أملنا في ذلك أكبر منه عند الأمم الأخرى. مرة أخرى، الأمر يحتاج لدراسة ومتخصص.
الأمر المحتمل الآخر لإهمال الوقاية والحذر هو أن بعضهم لا يثق بالعلم ولا بالعقل أبدًا. فهو ينتظر فقيهاً أو عالم دين يفتي له بأن الوقاية من كورونا خير من العلاج وبأن اتباع الأنظمة وآراء المتخصصين هو واجب شرعي. ولكن المصيبة الكبرى هنا هي أننا نُفاجأ بأن بعض علماء الدين ورجاله الذين ينتظر فتاواهم أو إرشاداتهم لا يثق بالعلم أيضًا ويعتقد بأن الله بما له من سلطة على الكون سيلغي الأسباب الطبيعية التي وضعها للكون حبًا وكرامة للمسلمين. فأولئك المشايخ يعتقدون بأن كورونا لا يصيب المسلمين أو المؤمنين وأن الذين أصابهم ذلك المرض من المسلمين ربما كانوا فاسقين او طالحين أو منافقين أو أنه مرض آخر وبسيط لن يلبث طويلاً حتى يزول عاجلاً. لاشك أن ما نحن فيه يمثل نكسة وانحداراً عظيماً. فأنا أعي وأتفهم بأننا متخلفون عن الركب علمياً واقتصادياً وصناعياً، ولكن لا أستطيع استيعاب وتفهم هذا التخلف في التفكير المنطقي والديني مهما حاولت. ألم يكن كورونا ملحداً يتحدث الصينية في الصين ومسيحياً يتحدث بعدة لغات أوروبية في أوروبا ويهودياُ في فلسطين المحتلة وعربياً مسلماً يتحدث بالعربية في عدة دول عربية؟ هل لكورونا دين أو لغة؟ وهل يزور دولة ويترك أخرى بسبب دينها؟
والأدهى من ذلك كله أن تواجه بعض المتطفلين على المتخصصين من الأطباء والممرضين وغيرهم ممن ينتمون للسلك الصحي، فليس كل طبيب هو عالم ”وبائيات“ طبعاً، ممن يساير مثل تلك الرؤى وينساق وراء بعض رجال الدين فيرى أن ذلك من تضخيم الإعلام وتهويلاته ليس إلا، وأنه ليس هناك أي ضرورة للاحتياط والحذر. لنفترض جدلًا بأن الموضوع مضخم وبأنه مؤامرة من بعض الدول التي صنعت هذا الفايروس مخبريا لتشن حربا بيولوجية واقتصادية على دول أخرى، لكن ذلك كله لا ينبغي أن يحول دون إعمال العقل والمنطق وأخذ الحيطة والحذر بأقصى درجاته. فلو تبين لنا لاحقا بأن الأمر قد ضُخِّم فعلاً وبأنه في الحقيقة لا يحتاج إلى كل ما قمنا به؛ فإن ذلك لن يضيرنا شيئا. وأما لو تبين لنا خلاف ذلك، فإننا نكون قد قمنا بالاحتياطات اللازمة التي وقتنا من ذلك الفايروس.
ولم يقتصر كورونا على كشف أقنعتنا وفضح سلوكنا تجاه أنفسنا فقط، وإنما كشف لنا حقيقة احتقارنا للآخر المختلف في دينه وأكله وعاداته. فنحن نعيب ونتهكم بالصينيين وبدينهم وبأكلهم ودينهم وعاداتهم ولغتهم لأنها تختلف عما ألفناه وما ورثناه. وبالرغم من أن ما نأكله هو ما لا تأكله كثير من الشعوب الأخرى وما نلبسه هو ما لا تلبسه معظم الشعوب، إلا أن ذلك لم يجعلهم يسخرون من أكلنا ولباسنا ولا أن يستهجنوا عاداتنا. الواقع أن كورونا لم يكتفِ بأن أسقط الكثير من أقنعتنا التي كنا نتخفى نتوارى وراءها، وإنما زيادة على ذلك أثبت لنا، نحن كأفراد، فشلنا الذريع في إدارة الأزمات والتعامل معها، فبدلاً من التعامل مع كورونا علمياً صنفناه دينياً ومذهبياً ومناطقياً وغير ذلك من التصنيفات وبدأنا نتراشق بتلك السهام التي ستقتلنا جميعاً. فهل بعد هذا كله نتعلم من كورونا درساً قاسياً نفيد منه لمستقبلنا؟