آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 4:07 م

الحَجْر المعرفي ووهم الكمال

منصور يحيى *

الحَجْر هو المنع، وحَجَر عليه القاضي أي منعه من التصرف في أمواله، والحجر الصحي هو عزل المصاب أو منعه من الإختلاط بالناس تجنباً لانتقال المرض او العدوى، وهي حالة غير اعتيادية وطارئة على الأنسان السليم، ويكون الغرض منها هو الخوف على الآخرين واتقاء الضرر عليهم غالباً.

بينما هناك نوع آخر من الحجر يكون الضرر فيه على المحجور لا غيره، وقد يكون الحجر فرضاً من الخارج أو ذاتياً، وهو الحجر الثقافي أو المعرفي، وتكون دواعي هذا النوع من الحجر هو الخوف على المحجور نفسه لا الآخرين، وهذه الحالة من الإنزواء والإنطواء طارئة غير اعتيادية أيضاً، فهي مضادة للطبيعة البشرية الإجتماعية وأحد أسباب التحجر ومانع من الجدل المعرفي الكاشف عن العيوب والثغرات التي لن يلتفت لها في بيئة محايدة لا تضعها على المحك،

الأفكار التي تبقى في الذهن دون اختبارٍ على مضمار النقد قد تكون عرجاء دون علم صاحبها، التعالي على نتاج الفكر الإنساني تقديساً لفكرةٍ ما وحفاظا عليها قد يؤدي إلى جهلٍ مقدس، الغريب هو ان حجر الإنسان لنفسه طواعيةً خوفاً على أفكاره من تدنيس الآخرين سلوكٌ لن يضر به إلا نفسه، فعندما يغمض المرء عينيه إنكاراً لواقع العالم محاولاً التمسك بما في داخل رأسه فهو الذي يخسر العالم ويبقى العالم كما هو محتفظاً بألوانه المعتادة.

من المريح أن تكون الحقيقة كما نريدها مطابقةً لأحلام يقظتنا، ولكن هذا النوع من الحقائق صناعة وهمية، فالحقيقة الواقعية يُكشف عنها ولا تُصنع،

أدى اختراع الطابعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد الألماني جوهان غوتسمبيرق إلى ثورة فكرية كانت أحد أهم الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية التي غيرت العالم، ولكن تأخر دخول هذا الإختراع العظيم إلى العالم الإسلامي لمدة قرنين بسبب حظر العثمانيين لها، ما أدى لتأخر العالم الإسلامي عن الركب الغربي 200 سنة.

وبعد زوال هذا الحظر ودخول الطابعة، والتطور الرهيب في التقنيات ووسائل التواصل واختراق جميع انواع الحجر الخارجي، لم يعد ينقصنا إلا ذلك الزخم الدافع للمعرفة الذي لا يحجزه عنا إلا جدران الأوهام الطهرانية والمركزية الفكرية والحقيقة المطلقة واليقينيات القطعية، التي توهم الإنسان بوقوفه على قمة العالم ويكفيه أن يسأل الله الثبات، بينما هو وحيد في قعر الوادي الذي ليس له قرار، فلو زالت تلك الأوهام واطلع على حقيقة حاله لكان ذهوله وصدمته من سوء حاله أكبر مولد لحركة ارتقائة ليثبت وجوده على الساحة الإنسانية.