العبادة في سيرة الإمام الهادي (ع)
تنبع عظمة العبادة وأهميتها من أن الله سبحانه وتعالى قد جعلها الغاية الكبرى من خلق البشر، إذ يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[1] .
والعبادة من أقوى العوامل في ترسيخ الإيمان في القلوب، والاقتراب من الله عز وجل، والانقطاع إليه، لأن العبادة هي غاية التذلل والخشوع، ولا يستحقها إلا المنعم الأكبر الذي له غاية الإنعام والإفضال، وهو الله تعالى.
ولذلك نجد أن أئمة أهل البيت الأطهار كانوا المثال البارز في العبادة والتقوى والانقطاع إلى الله عز وجل، وإحياء الليالي بالعبادة والمستحبات، وتلاوة القرآن الكريم، والأدعية والمناجاة لله جَلَّ وعلا.
وهكذا كان الإمام علي الهادي أعبد الناس في زمانه - بشهادة المؤالف والمخالف - وأتقاهم، وأكثرهم انقطاعاً للمولى عز وجل.
يقول الشيخ باقر شريف القرشي «رحمه الله»:
«أما الإمام الهادي فلم ير الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشّدة تحرجه في الدين، فلم يترك نافلة من النوافل إلّا أتى بها، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأوّل سورة الحديد إلى قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[2] ، وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات، كما نسب إليه صلاة نافلة كان يصلي فيها ركعتين يقرأ في الاُولى سورة الفاتحة وياسين، وفي الثانية سورة الفاتحة وسورة الرحمن» [3] .
بالرغم من أن كتب التاريخ والسيرة لم تنقل لنا إلا النزر القليل من عبادة الإمام الهادي بفعل الحصار المفروض عليه من قبل السلطة العباسية، إلا أنه يمكننا معرفة بعض النماذج من عبادته من خلال ما نقله بعض الأعلام أو عمال المتوكل الذين كانوا يهجمون على بيت الإمام في منتصف الليل، وإليك البيان:
تحدث سعيد الحاجب عن حالة الإمام الهادي حينما تمّ الهجوم على داره ليلاً بأمر من المتوكل العباسي قائلاً.
«صرت إلى دار أبي حسن بالليل، ومعي سلم، فصعدت منه إلى السطح، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة، فلم أدرِ كيف أصل إلى الدار، فناداني أبو الحسن من الدار: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة، فنزلت فوجدت عليه جبة من صوف وقلنسوة منها، وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة» [4] .
وهذا يعني أن الإمام كان منشغلاً بالعبادة، إذ وجده فارشاً السجادة وهو مقبل باتجاه القبلة للصلاة.
وصف يحيى بن هرثمة عبادة الإمام الهادي وملازمته للمسجد للعبادة، والإعراض عن الدنيا وما فيها، إذ يقول يحيى ما نصه:
«فذهبت إلى المدينة فلما دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي، وقامت الدنيا على ساق؛ لأنه كان محسناً إليهم، ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، فجعلت أسكنهم، وأحلف لهم إني لم أؤمر فيه بمكروه، وإنه لا بأس عليه، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم» [5] .
ولما سأله المتوكل عن الإمام الهادي أجاب يحيى بن هرثمة بما نصه: «فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته» [6] .
فالإمام الهادي كان ملازماً للمسجد للعبادة والانقطاع إلى الله تعالى، ولم يجدوا في بيته إلا المصاحف وكتب الأدعية والعلم، مما يعني مداومة الإمام على تلاوة القرآن، وقراءة الأدعية المأثورة، ومدارسة العلم.
أكد عدد من الأعلام على أن الإمام علي الهادي كان متعبداً ومخلصاً في عبادته لله عز وجل، ومنقطعاً إليه تعالى.
يقول اليافعي: «عاش أربعين سنة، وكان متعبداً، فقيهاً، إماماً» [17] .
وقال ابن العماد الحنبلي: «كان فقيهاً، إماماً، متعبداً» [8] .
وقال ابن كثير الدمشقي: «كان عابداً، زاهداً» [9] .
وقال الذهبي: «كان فقيهاً، إماماً، متعبداً» [10] .
وقال القندوزي الحنفي: «كان عابداً، فقيهاً، إماماً» [11] .
فهؤلاء الأعلام، وعلى اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، يؤكدون كلهم على حقيقة واحدة: إن الإمام علي الهادي كان إماماً، عابداً، وهذا يعني أنه كان مضرب المثل في العبادة والانقطاع إلى الله عز وجل، وملازمة المسجد، وتلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية الشريفة، وإحياء السحر بالنوافل والتهجد والدعاء والتذلل لله تعالى.
وإذا كان الإمام كذلك مع علو مقامه، وجلالة قدره، وقربه من الله سبحانه؛ فما أحوجنا للاقتداء به، والسير على نهجه، واغتنام كل فرصة للإتيان بالمستحبات والمندوبات فضلاً عن الواجبات، والمداومة على تلاوة القرآن الكريم، وقراءة الأدعية المأثورة، وإحياء السحر بالعبادة والتهجد والمناجاة، والانقطاع إلى الله عزّ وجلّ.