آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

جُمَل ليس لها محلٌ من الإعراب

بسام المسلمي *

في سنة1961 تمكن يوري جاجارين «1934 - 1968» رائد الفضاء السوفيتي من الطيران إلى الفضاء الخارجي ليُسجَّل كأول إنسان يطير في الفضاء الخارجي ويدور حول الأرض. هذا الحدث لم يمر على الولايات المتحدة، المنافس الشرس للإتحاد السوفيتي وقتها، مرور الكرام، بل إنها ضجت وأعلنت حالة الطوارئ التي استمرت أربعين سنة. وقد قامت بتشكيل لجنة لمراجعة وإعادة النظر في المناهج التي يدرسها الطالب الأمريكيّ لإيمانها بأن التعليم والمناهج هي أساس التقدم. الحقيقة أن ذلك السبق الفضائيّ السوفيتيّ كان جرس الإنذار الذي نبه الولايات المتحدة التي أقرت بأنه لابد وأن يكون ثمة خطأ في المناهج وإلا لما سبقها الإتحاد السوفيتي في غزو الفضاء. فأمريكا هنا لم تلقِ باللائمة على غيرها كما يحلو للكثير منا فعل ذلك، وإنما حمَّلت نفسها المسؤولية بشكل تام لأن تحمل المسؤولية وتغيير الذات هو البداية وهو الممكن وربما الأسهل في أكثر الأحيان.

وتمخض البحث والدراسة عن تقرير ”A Nation At Risk“ والذي يعني ”أمة في خطر“ في عهد الرئيس ريجان سنة 1983.

وعندما جاء الكاتب المصريّ أنيس منصور بذلك التقرير إلى الرئيس حسني مبارك، أحاله إلى وزير التعليم آنذاك مصطفى كمال حلمي. ولكن، وللمفاجأة، فإن مصطفى حلمي لم يتفاعل مع التقرير مشيرًا إلى أن مصر قد سبقت أمريكا في هذه النتائج والتوصيات ولكنه لا يستطيع أن يقوم بالتغيير والإصلاح أو أنه لا يريد ذلك لأنه لا يعتقد بأن مصر في خطر مثل الأمريكان أو أن التعليم بحاجة إلى إصلاح.

ولعل هذا ما مُني به بعض الناس في بعض البلاد العربية. فمسؤول التعليم في بعض تلك البلاد لا يرى أية مشكلة في المناهج والمدارس رغم أن الأمم والدول تمر كالبرق والصواريخ من تحتنا ومن فوقنا ونحن لا نزال نرزح في مواقعنا. فمثل ذلك المسؤول لا يرى، ولاشك، أن وقوفنا خطيئة ولا يرى في مرور الأمم بنا ومجاوزتها لنا أية مزية لها. فهو، كما الكثير منا، لا يرى فيهم قدوة في أية مجال أبدًا لأنهم في شر وضلال مطبق لأنهم / فهم غير مسلمين. ولست أدري بمَن يريد الكثير منا أن نقيس أنفسنا ونتخذهم قدوة لنا دون غيرهم. هل نقارن أنفسنا بسلف وماض بيننا وبينه أبحر وجبال من السنين والأيام؟ أم يريد أن نقارن أنفسنا بحاضر بلدان أخرى متخلفة لأنها مسلمة فقط؟ أم يعتقد بأننا لا يجب أن نُقارَن بغيرنا لأن لنا خصوصيتنا أو لأننا الأفضل والأحسن وأن الآخرين هم مَن يجدر بهم أن يتخذونا قدوة ومثالًا يُحتذى؟ ولا أظنني أغالي كثيرًا عندما أزعم بأن الكثير منا، شعر أو لم يشعر بذلك، يميل ويعتنق مثل هذا الاعتقاد الأخير وإلا لما رضي بوضعنا هذا ووقف متفرجًا على قطار الأمم المتقدمة الذي مر به وتعداه حتى اختفى عن الأنظار.

الواقع أن مشكلتنا تكمن في أننا لا ندرك أننا متخلفون عن الركب وأن الفارق بيننا وبينه أصبح يحسب بالسنوات الضوئية. فنحن لا نعي بأن ما عندنا هو كثير من التخلف الذي نفتخر ونزايد به على الأمم المتقدمة أو على حد تعبير دريد لحام في مسرحية ”غربة“، ”شوية تخلف رافعين راسنا فيه“. وإضافة إلى هذه المشكلة، فإن هناك إشكالية أخرى ضاعفت وفاقمت من علتنا وهي أننا لسنا متجانسين ولا حتى متقاربين في المنطلقات والأساسيات. ففي بلداننا العربية تجد بيننا مَن يعيش في الماضي السحيق بفكره وسلوكه إلى حد الانغماس مع أن جسمه حاضر بيننا، وتجد مَن يعيش في الحاضر في فكره وسلوكه إلى الحد الذي يعميه عن استشراف المستقبل، وتجد أخيرًا مَن يعيش الحاضر ويستشرف المستقبل معًا كما قال المفكر محمد جابر الأنصاري. فكل تلك التيارات تتجاذب أطراف القافلة والمسيرة. فالذي يعيش في كهوف التاريخ يريد منَّا العودة إلى الماضي والسلف والزمن الجميل والصحراء والخيمة ويدعونا إلى ”التعرب بعد الهجرة“ رغم أنَّ ذلك من الكبائر. وفي الجانب الآخر، ستجد ذلك الواقعي الذي لا يبرح واقعه ويريد منَّا ولنا أن نعيش يومنا غير عابئين بمستقبلنا إطلاقًا داعيًا الله في كل صلواته بأن ”لا يغيِّر علينا“. ولا أراني مضطرًا للحديث عن النمط الثالث، فهو نادر الوجود عمومًا وهو منبوذ إن وُجد وإن كان هناك نزر قليل ممن يدعو الله قولًا وعملًا بأن ”يكثِّر الله من أمثاله“. فمهما كانت بعض أفكاره وتنبؤاته غريبة أو حتى غبية في نظرنا، إلا أن بعضها، ولو واحدة منها فقط، قد تكون صحيحة وتكون خارطة الطريق لنا إلى المستقبل. فمثل هذا النمط، كما يرى ذلك النزر، لابد وأن يُحتفى به وينال حظه من التشجيع حتى تظل أفكاره تتوالد وتتكاثر لأنها قد تخلق لنا نقلة نوعية كنا ننتظرها.

فنحن إذًا متشرذمون ولا توجد روابط حقيقية بيننا. فهذا ”مشرِّق“ وذاك ”مغرِّب“ و”شتان بين مشرِّق ومغرِّب“! وقد فطنت بعض الدول المتقدمة إلى مثل تلك الاختلافات والفروقات غير الصحية والإيجابية، فعملت بكل ما أوتيت من قوة على تسويتها وتذويبها. فقد فرضت التعليم المدرسيّ مثلًا على الجميع ودفعت الجميع إلى العمل وألزمت الجميع باتباع القوانين وغير ذلك. فمثل تلك الدول حاولت، ولا تزال تحاول، بشكل متواصل على إلغاء الفروقات السلبية باختلاف أشكالها وتعزيز الاختلافات الإيجابية بكل ألوانها. فالكاتب والصانع والرسام والممثل والطبيب والمعلم رغم اختلاف مهنهم الصحيّ والمحبب والإيجابي، إلا أن الجميع يركب قطارًا واحدًا متجهين نحو المستقبل. ونتيجة لذلك التوحد والتشابه في الأساسيات والمرتكزات صار التفاهم بين المختلفين في السطح حليفًا لأن جذورهم ومنطلقاتهم واحدة. ومما يجسد مثل ذلك النشاط الدائم والعمل الدؤوب في سبيل تذويب الفروقات غير النافعة هو ما قامت به الدول الأوروبية مثلًا من اتحاد وتوحد رغم ما بينها من اختلافات وإحن وحروب ودماء. لذلك؛ فقد اعتبر إبراهيم البليهي ذلك الاتحاد أو الوحدة أعظم إنجاز إنساني! أما نحن فقد جسدنا مفهوم ”جمل ليس لها محل من الإعراب“ تمامًا. فنحن لا نحسن العمل الجماعي ولا نعتبره قيمة. فبرغم أن كلمات الجمل التي ليس لها محل من الإعراب تُعرب كلًا على حدة فاعلًا ومفعولًا به ومبتدأً وخبرًا، إلا أنها كجَُمل تبقى ليس لها محل من الإعراب.

ولكن، ومهما اختلفنا قي قراءتنا لحالتنا ووضعنا، فإننا لن نختلف كثيرًا على قراءة لغة الأرقام لوضعنا وموقعنا الصحيح. فلغة الأرقام تخبرنا بأننا من أقل الأمم إنتاجًا فكريًا وصناعيًا واقتصاديًا. وكذلك، فإنها تنبهنا بأننا نقبع في القوائم السوداء في الفساد والبطالة والكساد. فهل بعد ذلك نشك في أننا متخلفون عن ركب الأمم وبأننا نمشي أو حتى نسرع في اتجاه معاكس للسير؟ وهنا يحضرني مثال متكرر للمتخصصين في الدين الإسلاميّ أو في اللغة العربية الذين يرحلون عنا ولا نملك إلا أن نرثيهم بأنهم كانوا زاهدين وأتقياء رغم أن ذلك أمر بينهم وبين ربهم ولا يؤثر فينا كثيرًا لأنه قد يكون صفة لغير عالم الدين وغير عالم اللغة العربية أيضًا. فنحن لا نستطيع رثاءهم بذكر أي كتاب أو مؤلَّف لهم من الكتب لأنهم لم يخلِّفوا لنا كتابًا واحدًا في أغلب الأحيان. فحتى في العلوم الدينية الإسلامية واللغوية، اللذين نظن أننا نحسنهما ونتقنهما، نحن مفلسون، ولا نكل من اجترار ما خلفه سلفنا قبل ألف عام.

والخلاصة هي أننا لن نستطيع، مهما حاولنا، أن نقرر أي طريق سنسلك ولن نستطيع أن ننتقل إلى المرحلة التالية وهي تحديد اتجاه السير والسرعة اللازمة لنا للحاق بركب الأمم المتقدمة قبل أن نتفق على موقعنا ومكاننا الحقيقي بين الأمم.