اللغة البيضاء والمتلقي البكر
الكتابة حالة إنسانية يستخدمها الفرد للتعبير عن مشاعره وآرائه دون الحاجة إلى تحريك اللسان، وبهذا فهي لغة أخرى ”بديلة“ مختلفة تستعمل آليات غير مألوفة والجاهل بها لا يستطيع فك شفراتها وسيكون عرضة لسوء الفهم والتأويل وهي مشكلة الكثير من القراء اليوم.
فحين يبدأ الكاتب بالكتابة لا يضع أمامه سوى الفكرة المراد التعبير عنها، أما التفاعل الحسي والمباشر كما في المحاضرات أو حتى في اللقاءات الحميمة بين الأصدقاء أو في جلسات المجالس وسط أناس غرباء فهي تخضع لشروط إضافية وتتعلق بالمكانة والقصد والمراعاة وما إلى ذلك.
بإزاء هذه الفكرة المراد التعبير عنها يتوحد الكاتب مع نفسه ولا يقاطعه أحد حتى وإن وجد في مكان فوضوي أو مزعِج، فلإيصال الفكرة يكون التركيز عاليا والذهن استغرق تمام الاستغراق في إيجاد الكلمات المناسبة والعبارات الهادفة واللغة التي يتقبلها الطرف الآخر أو من توجه له الكتابة.
لغة الكتابة هي المشكلة الأساس التي يعانيها من يمتهن اللغة البديلة ولا غرابة أن نجد حشدا لوظائفها ومحاولات لتفكيكها بعد الانتهاء، وللتقريب إلى الأذهان يمكن الإتيان بمثال القرآن الكريم، فهو خطاب رباني إلى البشر جاء على صيغة كلمات وعبارات ولفهمه وتفسيره تظافرت عدة علوم كاللغة والبلاغة والأخبار والسيرة النبوية وما إلى ذلك.
أهمية اللغة البديلة تكمن في أنها تخاطب وعيا آخر عبر الأفكار والتصورات وليس عبر الكلمات التقريرية والمباشرة، وبهذا فإنها تنتقل من مستوى إلى مستوى، أي من مستوى الفهم البسيط إلى مستوى التفكير والتأمل، فلأجل الوصول إلى فهم المكتوب يحتاج الفرد نوعا من التأمل، بخلاف الكلام المباشر والحميمي.
يمكن تقسيم التأثيرات على لغة الكتابة إلى ثلاثة أقسام، تتوزع بين 1/ الكاتب. 2/ اللغة. 3/ المتلقي.
الكاتب حين يكتب يعتمد قاموسا خاصا به تكوَّن عبر ممارسته للغة لفترة زمنية وفق مجال محدد، فالطبيب يكتب اللغة الطبية والسياسي يكتب اللغة السياسية والاقتصادي يكتب اللغة الاقتصادية... وثمة فروق بين اللغات الثلاث، لا يدركها إلا المتخصصون؛ تتمثل في المصطلحات الواردة وكيفية توجيه الخطاب والأهداف التي تحكمه.
اللغة في حدها الأدنى تتمثل بالمباشرة والتقريرية وبهذا فإن الكتابة باعتبارها لغة بديلة سوف تسعى إلى تجاوز هذه المباشرة والتوجه نحو إيصال الفكرة بطريقة شاملة وتامة بأقصر عبارة وأقل لفظ، فاللغة المنطوقة لا فضاء يحدها بينما الكتابة فضاؤها الورقة أو الكتاب، ولذا ستخضع لشروط لا يخضع لها المنطوق.
المتلقي يمتلك من اللغة مقدارا معينا، وسيكون تلقيه للمكتوب وفق هذا المقدار، وبما أن الأفراد مختلفون فمن الصعب تحديد الآلية المناسبة لتلقيهم، حيث تتسع باتساع معرفتهم باللغة وتقل بقلة هذه المعرفة، ولكن من الممكن وضع قاعدة أولية تتمثل في معرفتهم للألفاظ وإدراكهم لدلالاتها المباشرة.
إذن لغة الكتابة تخضع لتأثيرات الثلاثي: الكاتب واللغة والمتلقي. وعلى هذا يدور فهمها وتفسيرها واستخراج أفكارها، بل وقبولها وعدم قبولها، وتقسيمها إلى لغة ”بديلة“ مفهومة أو غير مفهومة، وسيكون لكل مكتوب ارتباط بكاتبه من جهة وارتباط آخر يصله بالمتلقي من جهة أخرى، وهذا ما يسبب اختلاف الكتابة واختلاف التلقي من فرد لآخر.
يمكن ذكر بعض الاختلافات «اللغوية» بين الكاتب والمتلقي، عبر مجموعة من الأمثلة المختارة وإذا أراد الاستزادة فما عليه إلا الرجوع إلى الكتابات واكتشاف ذلك بنفسه، والأمثلة ستكون عبر اللغات: الطبية والاقتصادية والسياسية والثقافية وارتباطها بوباء العصر «كورونا».
اللغة الطبية: تهدف إلى نشر التوعية والتحذير وأخذ الاحتياط من الإصابة وتسعى إلى التأكيد على الحماية وبهذا ستكون لغة صادقة وخطابا مباشرا للجمهور بينما التفاصيل الخاصة بالمرض ستتضمن المصطلحات الإجرائية التي لا يدركها سوى الأطباء المتخصصين.
اللغة الاقتصادية: تهدف للتركيز على التأثيرات السلبية «الصين» والإيجابية «أمريكا» لانتشار المرض دون التطرق لتفاصيله وسوف تستعمل خطابا ماليا يوضح الخسائر والأرباح في الأموال لا الممتلكات ولهذا هي ملتزمة بالشفافية لأن آثارها محسوسة بالنسبة للمتلقي العادي، وستأتي صادقة ومباشرة كما في اللغة الطبية.
اللغة السياسية: تهدف لطمأنة الرأي العام وعدم نشر الذعر بين السكان «الصين» مع التأكيد على العناية الشخصية والوقاية من الاحتكاك بالمصابين وستستعمل خطابا ليس صادقا تماما لأجل ذلك مع إبراز المنجزات التي تحققت أو التي في طور التحقق؛ بغية تجاوز الأزمة وتأثيراتها.
اللغة الثقافية: تهدف لاستغلال الحالة المضطربة والمتداخلة بين عدة عناصر كالعاطفية «الخوف» واستشراف المستقبل «النتائج المحتملة» وتجهيل الجمهور «الصورة الوردية» والعودة إلى الماضي «نظريات المؤامرة» والبقاء على الحياد «التجاهل» والتركيز على الغيبيات «العقاب الإلهي».
اللغات الأربع: الطبية والاقتصادية والسياسية والثقافية. تستخدم المكتوب وسيلة لإيصال أفكارها، ولا فرق هنا بين اللفظ والصورة، فالنوعان ينتميان إلى الشيء نفسه؛ أي المكتوب المرئي، ويمكن اعتبارهما واحدا، خصوصا في ظل طغيان وسائل التواصل وانفتاح العالم.
حين يتم التدقيق في هذه اللغات يمكن اكتشاف الفروق بينها، خصوصا إذا تم ربطها بالكاتب من ناحية والمتلقي من ناحية أخرى، وأبرز هذه الفروقات:
اللغة الطبية تستخدم كتابة جامدة جافة تهدف لبيان الحقائق وتستعمل مصطلحات عسيرة لغير المتخصص الذي لن يفهم شيئا إذا لم ينتمِ إلى المجال الطبي، وبهذا ستكون الكتابة على هذا النحو غير قابلة للتداول العام ولكن الصحافة والإعلام يعملون على تخفيفها عبر شرحها وتوضيحها.
اللغة الاقتصادية وإن استعملت كتابة قريبة من أفهام الناس وقاموسهم بسبب ارتباطها المباشر بحياتهم ومعاشهم إلا أن بها جانبا غير واضح؛ يتمثل في القوائم والبيانات والأرقام التي تعتبر حقائق غير مفهومة إلا للمتخصص، بينما المتلقي العادي يكتفي بالنتائج النهائية؛ أي بمعرفة العدد دون معرفة التفاصيل التي أدت إليه.
اللغة السياسية ولأنها تهدف للطمأنة فلا ضير من اعتمادها بعض إخفاء الحقائق وحرف الأنظار ويتم ذلك عبر الشعارات البراقة والعبارات المفتوحة من خلال التركيز على تحقيق الإنجاز في مواجهة المشكلة «وذلك واضح من خلال الإعلان عن إنشاء مستشفيين بصورة سريعة لمحاربة المرض وكذلك شفاء الكثير»
اللغة الثقافية لكونها ذات غايات متعددة فخطابها يستخدم عبارات تتناسب مع غاياتها وربما يصطدم الخطابان وتتعارض الكتابتان كما هو بين لغة العقاب الإلهي ولغة الصورة الوردية فالأول يستفيد من ألفاظ وقصص القرآن والسلف والتاريخ حول البلاءات النازلة والثاني يستخدم عبارات ناعمة وألفاظ تحمل الأمل بالمستقبل.
النتيجة حول اللغة المستخدمة تشير إلى أنها متعددة الألوان وترتبط ارتباطا وثيقا بالكاتب والمتلقي، فهي ليست بيضاء أو سوداء تماما، إنما تقع ضمن منطقة رمادية، فالكاتب يمتلك معجما مختلفا عن المتلقي؛ الذي يظل أرضا بكرا، يحاول الكاتب حرثها، واستنبات الأفكار داخلها.