كذبة «أنا منطقي»
يولد الإنسان من أبوين يكتسب منهما انتماءه الديني والفكري، لا يختار هذا الإنسان أن يكون مختلفًا، كما لا يستطيع في الغالب افتراض أن أسرته ليست على الحق، وبالنتيجة فإن الدفاع عن معتقدات آبائه هي نزعة تكاد تكون أصيلة في نفسه، لأنها تغلغلت في ذهنه كمعيار لتقييم الآخرين، وكلما اقترب الناس من تلك المعتقدات كانوا أقرب للحقيقة برأي هذا النشء.
ثمة جانب نفسي يعيشه كذلك يتعلق بنظرة محيطه للمختلف، فحينما يعتاد المجتمع على اعتبار المنطق والعقل ملكية شخصية له ويجرد بقية أقوام الأرض منها، فإنَّه يخلق فيه شخصية متعالية تجد لنفسها الحق في تسفيه آراء الناس والانتقاص من عقولهم، وبالنتيجة يتحول لشخص عدائي يستمرئ السخرية من المختلف والتهكم الدائم عليه.
شكلت البعثات الدراسية التي قادت الكثير من شباب وشابات العالم العربي والإسلامي إلى الغرب وكذا الاختلاط الدائم بقوميات وأديان مختلفة في الوظائف والأسفار السياحية والانفتاح على العالم بشكل عام نقطة تحول أو ربما صدمة لدى كثيرين، هكذا أصبح الكثير منهم وعوضًا أن يقول «الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا»، يقول «اللهم عافنا من سوء حالنا».
لا أُريد هنا تنزيه الأمم المتقدمة تمامًا من كل شر، ولكن من الحق أن نقول إنَّ القناعات في تلك المجتمعات تتشكل في الغالب بعيدًا عن تسفيه المختلف والانتقاص من قدره، هكذا يجد الناس فيها للآخر الحق في أن يكون كما يريد دون وصايةً على عقله، فاللغة التربوية والصحفية والإعلامية بشكل عام تملك مستويات من احترام المختلف وجودة التحليل تجعلها تقدم مادةً علمية منصفة في الغالب وغير متهكمة حتى على أشد المختلفين معها.
وهذا ما يعزز في نفس القارئ والمحيط عمومًا التهذيب والإنصاف في نظرته للمختلف، وبالنتيجة يتحول المجتمع لمجتمع متسامح يتفاعل مع كوارث الأقوام الأخرى بحزن وألم لا بلغة «عساهم، من سوء أفعالهم».
من يدعي أنَّ المنطق والدليل حدا به لأن يكون كما هو الآن فهو في نسبة غير قليلة غير دقيق، هو باختصار ورث عن آبائه وأجداده هذا الانتماء، وعلى افتراض أنَّه بحث عن الحقيقة فيما بعد فهو أحد القلائل الذين يفعلون ذلك في هذا العالم، لذا ينبغي عليه أن يمتلك القدرة لأن يعذر الآخرين على ما هم عليه، وأن يتأكد قبلها أنَّ النسبة الأعلى من البشر يعتقدون أنَّهم يسيرون على الهدى، ومثلما يجد في قرارة نفسه الكثير مما يظن أنها موارد تهكم على المختلفين معه، فليتأكد أنَّهم كذلك يبادلونه نفس الأمر تمامًا.
إنَّ الحق وإن كان واحدًا إلا أنَّ معرفته قد لا تتيسر للجميع، لذا فافتراض الجحود به والتسويق لهذه الفكرة في كل وقت هي الأرضية الحقيقية لخلق مجتمع يعيش العداء والبغض للمختلفين معه.