عالم افتراضي أم عالم واقعيّ؟
”Hope you enjoy your stinkin' phones.“ بهذه العبارة
والتي تعني استمتعوا بهواتفكم النتنة صدَّرت صحيفة ”إكسبرس“ الورقية الأمريكية والتابعة لل ”واشنطن بوست“ عددها الأخير. وقبل تلك الصحيفة توقف عدد من الصحف العالمية عن الطباعة الورقية مثل الاندبندنت البريطانية ونيويورك تايمز وول ستريت جورنال الأمريكية وليموند وفرانس سوار الفرنسيتيْن وغيرها الكثير من الصحف الأخرى.
وعلى مستوى العالم العربي فقد توقف عدد من الصحف الورقية مثل السفير اللبنانية والشرق والنادي السعوديتيْن وغيرها. ويعزو القائمون على تلك الصحف السبب في ذلك إلى الخسائر الكبيرة التي تكبدتها تلك الصحف بعد عزوف القرَّاء عن اقتناء الصحف الورقية وتراجع الإقبال عليها لأسباب مالية أو تقنية أو بيئية أو غيرها. والكثير من تلك الصحف التي توقفت عن النسخ الورقية تحولت إلى النسخ الرقمية أو الإلكترونية والذي عوَّض كثيرًا من تلك الخسائر المالية التي مُنيت بها تلك الصحف. وغني عن القول بأن ذلك التوقف النهائي عن الإصدار أو التحول من الإصدار الورقي إلى الإصدار الرقمي تسبب في تسريح كثير من العاملين في تلك الصحف طبعًا.
ولم يقتصر هذا الأمر على الصحف، بل تعداها ليطال الكتب الورقية أيضًا ودور السينما والحفلات الموسيقية. فكثير من الكتب قد تحولت إلى نسخ إلكترونية على صيغة ملف pdf خاصة في الدول العربية التي تكون فيها الحقوق الفكرية وحقوق الطبع مهدرة بشكل كبير نسبيًا. ولذلك؛ فإن العزوف عن قراءة الكتب الورقية واقتنائها وكذلك الإقبال على الصحف الورقية في بلداننا العربية سيفوق مثيله في الدول الأجنبية التي تراعي الحقوق الفكرية وتحافظ عليها بالتصدي الجاد والعنيف لعمليات النشر غير المشروعة. ونتيجة لذلك، فإن المكتبات والأماكن التي تبيع الكتب تضاءل عددها وأخذ في التناقص بمرور الزمن بعد أن أصبح عدد الكتب المباعة في انحدار ملحوظ والخسائر المالية تتفاقم من سنة إلى أخرى كسلسلة مكتبات Barnes & Noble الأمريكية. فقد كان عددها 727 محلُا في عام 2008 ثم انحدر من سنة إلى أخرى حتى وصل إلى 630 محلًا في عام 2018. وإضافة إلى تحول الكتب من ورقية إلى إلكترونية يمكن قراءتها من أي جهاز إلكتروني، ظهرت أجهزة مخصصة للقراءة في الكتب الإلكترونية والتي تميزت بقلة الضرر الناتج من شاشاتها كجهاز Kindle مثلًا. فمثل تلك الأجهزة عززت التحول وربما العزوف عن الكتاب الورقي وبذلك سلبت الأرباح التي كان يدرها الكتاب الورقي على المكتبات وأماكن بيع الكتب لصالحها.
وهذه العلاقة المتضادة أو السلبية، كما يعتقد الكثير من الناس، بين التطور الكبير في التكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية والإقبال على الصحف والكتب الورقية أثارت جدلًا كبيرًا في الأوساط التربوية والاجتماعية بين متفائل ومتشائم حيال تلك العلاقة الشائكة. وقد كُتب كثيرًا حول هذا الأمر، ومن تلك الكتابات كتاب ”عالمنا الافتراضي.. ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟“ للفيلسوف الفرنسيّ بيير ليفي «1956 -»، والذي ترجمه للعربية د. رياض الكحال. وبيير ليفي في كتابه هذا متفائل ويعتبر أن العالم الافتراضي، وليس الوهمي أو الخيالي كما يعتقد البعض، هو امتداد للعالم الواقعيّ وليس ضده. وهو لا يرى، كما يرى غيره من أمثال الفيلسوف الفرنسي جون بودريار «1929 - 2007»، بأن انهيارًا تامًا على وشك الحدوث لكل المفاهيم، وأن الانسان معرض للاختفاء الكامل بسبب انغماسه في هذا العالم الافتراضي. بل إنه يرى أن العالم الافتراضي عالم خصب وعميق يثري العالم الواقعيّ بما يمتاز به مع الآفاق والفضاءات التي لا يمتلكها العالم الواقعي. فالعالم الافتراضي إذًا ليس مخيفا كما يتصور الكثيرون. وجلي للعيان أن من نتائج ذلك العالم الافتراضي هو القدرة على التواصل فيما بين الناس من كل بقاع الأرض واستطاعتهم نشر ما يخصهم في منصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم ما لم يكن متاحًا لهم في السابق. وكذلك، فإن توافر المعلومة وسهولة الإمساك بها بات من مخرجات ونتائج ذلك العالم الافتراضي أيضًا. فالخوف المبالغ فيه كما يرى ليفي ليس له أي مبرر، وأن التفاعل الإيجابي مع العالم الافتراضي بات ضرورة ملحة حيث أنه امتداد مباشر للواقع الذي لن نستطيع الانفصال والتنصل منه إطلاقًا.