وعاجز الرأي مضياع لفرصته.. وقفة صرفية
البيت المشهور، على بحر البسيط:
وَعاجِزُ الرَّأيِ مِضياعٌ لِفُرصَتِهِ
حَتَّى إِذا فاتَ أَمرٌ عاتَبَ القَدَرَا
منسوبٌ إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي «ت 170 هـ »، كما نسب إلى أبي الفضل الرياشي «ت257 هـ »، وأنشده الجاحظ من دون أن ينسبه في البيان والتبيين، 2/ 350، ومثله ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد، 1/ 19.
وفي هذا البيت مفردات تشير إلى قضايا صرفية يُجدر أن نتوقف عندها وصولًا إلى المعنى المُراد منه، ذلك أن علم الصرف/ التصريف يُعنى بأحوال بنية الكلمة، وصرفها على وجوه شتى لمعان مختلفة، وتشتق من أصل ”مادة“، لتنبثق منها أوزان ذات دلالة محددة، نحو ”أ ك ل“: أكل، يأكل، كُلْ، آكل، مأكول، أكول...، فلنتوقف عند مفردات البيت من هذه الزاوية الصرفية:
1 - عَاجِز، اسم فَاعِل من عَجَزَ، على وزن ”فَاعِل“، وهو الوزن القياسي له من الفعل الثلاثي، وفي اسم الفاعل دلالة على من قام بالفعل وأدَّاه؛ فقولنا: ”عَاجِز“ أي: الذي عَجَزَ، والعَجزُ نقيض الحَزم: عَجَزَ/ عَجِزَ، عن الأَمر: يَعْجِزُ، من باب فَعَل/ فَعِل: يَفْعِلُ، والمصدر عَجْزًا «سماعي»، ويقال عن المؤنث: عاجِزٌ وعاجِزَةٌ. - لسان العرب، ابن منظور ”ع ج ز“.
2 - الرأي، مصدر «سماعي» للفعل الثلاثي ”رأى“: الرُّؤْيَةُ بِالعَينِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعنَى العِلمِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفعُولَينِ، يُقَالُ: رَأَى زَيْدًا عَالِمًا، وَرَأَى رَأْيًا وَرُؤْيَةً وِرَاءَةً. قَالَ ابنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ النَّظَرُ بِالعَينِ وَالقَلبِ. - لسان العرب، ابن منظور ”ر أ ي“.
3 - مِضْيَاع: مِفْعَال صيغة مبالغة من الفعل ”أضَاعَ“ على وزن ”أَفْعلَ“، والضياع يعني فقد الشيء في زمنه المناسب، رَجُلٌ مِضياعٌ لِلمالِ كمِحرابٍ: مُضَيِّعٌ له. - لسان العرب، ابن منظور ”ض ي ع“، و”أضَاعَ“ فعل رباعي مزيد متعدٍ بالهمزة من الفعل «ضَاعَ»، في حين «ضَاع» فعل ثلاثي لازم، بمعنى: فُقِدَ، وحين دخلت عليه الهمزة صيَّرته متعدِّيًّا، فأصبح المعنى: ٲفْقَدَ؛ ولذا تسمَّى هذه الهمزة همزة التَّعدية، والحاصل أن صيغة ”مضياع“ فيها دلالة على تكرار هذا الفعل، وليس لمرة واحدة مثلًا، ذلك أن الإنسان بطبعه البشري قد تفوته فُرص نتيجة الجهل والغفلة وعدم الانتباه. أما أن يتكرر ذلك منه، فهو يعني صفة متأصلة فيه، عليه أن يعالجها بمعرفة أسبابها وطرق الخلاص منها.
4 - فُرْصَة: على وزن ”فُعْلَة“، تجمع على فُرَص: فُعَل، والسين لغة: فُرسة، ويبدو لي أن الصاد والسين هما طريقتا نطق؛ تارة بالتفخيم فيظهر صوت ”الصاد“: فُرصة، وأخرى بالترقيق فيظهر صوت ”السين“: فُرسة، وفي معنى الفُرْصَةُ: الشربُ والنوبَةُ، وجاءت فُرْصَتُكَ من البئر، أي نوبتك، وبنو فلان يتفارصون بئرَهم، إذا كانوا يتناوبونها، وانتهز فلانٌ الفُرْصَةَ، أي اغتنمها وفاز بها، وأفْرَصَتْني الفُرْصَةُ، أي أمكنتني، وأفْرَصْتُها: اغتنمتها. - لسان العرب، ابن منظور ”ف ر ص“.
5 - فَاتَ: فاتَ يفُوت، فُتْ، فَوْتًا وفَوَاتًا، فهو فَائِت، بمعنى ذهب ومضى، أي ذهب وقته ومضى زمانه؛ فلا مجال للإتيان به. في الحديث الشريف: ”الأمورُ مرهونةٌ بأوقاتها“. - شرح نهج البلاغة، الحائري، ص 41، وعن أمير المؤمنين : ”أَحَالَ الأَشيَاءَ لَأُوقَاتِهَا“ - المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
6 - عَاتَبَ: فعل رباعي مزيد على وزن ”فَاعَلَ“: عَاتَبَ يُعَاتِبُ، عِتابًا ومعاتبةً، فهو مُعاتِب، والمفعول مُعاتَب، بمعنى لَامَ، قال الشاعر:
أُعاتِبُ ذا المَودَّةِ من صَديقٍ
إِذا ما رَابَني منه اجْتِنابُ
إِذا ذَهَبَ العِتابُ، فليس وُدٌّ
ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِيَ العِتابُ
لسان العرب، ابن منظور ”ع ت ب“.
7 - القَدَرَا: على وزن ”فَعَل“، مصدر «سماعي» للفعل الثلاثي ”قَدَرَ“. عن ابن سيده: القَدْرُ والقَدَرُ القضاء والحُكْم، وعن اللحياني: القَدَرُ اسم المصدر، والقَدْرُ المصدر، وهو ما يُقَدِّره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأُمور. - لسان العرب، ابن منظور ”ق د ر“.
وبالعودة إلى دلالة البيت، نقرأ فيه الحث على اتخاذ القرار حين يتبين الأمر من جميع وجوهه، وهو نوع من أنواع الشجاعة «المعنوية»، أما عاجز الرأي يعني ضعيف الرأي فهو الذي لا يستطيع اتخاذ القرار إما لجهله أو لتردده. عن أمير المؤمنين : لا تَجعلُوا عِلْمَكُم جَهْلًا ويَقينَكم شَكًّا؛ إِذَا عَلِمْتُم فَاعْمَلُوا، وَإِذَا تَيَّقنتُم فَأَقْدِمُوا". - نهج البلاغة، 4/ 67، هذا الإنسان تفوته كثير من الفرص، وبدلًا من أن يلقي باللائمة على نفسه ليصحح مساره، يحمل الأقدار مسؤولية رعونة تصرفاته، لتظهر في شكل تعبيرات من قبيل: هذا حظي ونصيبي، المكتوب لنا، الزمن يعاكسني،...، وربما يصل به الأمر إلى سوء الظن بالله تعالى، قال الإمام الشافعي:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانَا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ
وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانَا
الإمام الشافعي، ديوانه.
وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين : ”إِضَاعَةُ الفُرْصَةِ غُصَّةٌ“. - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 18/ 283، وعنه أيضًا: ”الفرصةُ تمرُّ مر السَّحاب؛ فانتهزوا فُرَصَ الخَير“، و”الفرصةُ سريعةُ الفوتِ، بطيئةُ العود“، و”الفرصةُ غُنمٌ“ - ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، 3/ 2398.
وفي معنى البيت السابق، جاءت أبيات، من قبيل قول قاسم الكستي:
وعادمُ الرأي مِضَياعٌ لفرصتِهِ
هيهاتَ يبلغ من أيامه الوَطَرَا
وقول معروف الرصافي:
ومَن يعِش وهو مِضْياعٌ لفُرصتِهَ
ذَاقَ الشَّقَاءَ وأدمَى كفّه النَّدمُ
وكلُّ من يدَّعي في المجدِ سابقةً
وعاشَ غير مجيدٍ فهو مُتَّهمُ
وقول إبراهيم عبد القادر المازني:
عاجز الرأي والمروءة والنف
س ضئيل الآمال والأهواء
وقول بعضهم:
اغتنمْ فرصةً من الدهرِ واضربْ
ليس شيءٌ من الجديدين باقِ
وقد حثت النصوص الدينية على المسارعة في الخيرات. قال تعالى: ”وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ“ - آل عمران: 133.
وتمر على كل واحد منَّا، ذكرًا كان أم أنثى، صغيرًا أم كبيرًا، فردًا أم جماعات، بل على مستوى الدول، تمرُّ علينا فُرص كثيرة، إذا ما اقتنصناها سِرنا في طريق السعادة وبلوغ الأهداف وتحقيق الأمنيات. عن النبي ﷺ: ”تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة“. - الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة، الشهيد الأول «محمد بن جمال الدين مكي العاملي»، ص 2، وعنه ﷺ في وصيته لأبي ذر الغفاري: ”يا أبا ذر! إيَّاكَ والتَّسويف بأملِكَ؛ فإنك بيومك ولستَ بما بعده، فإن يكنْ غدٌ لك فكنْ في الغَدِ كما كنتَ في اليوم، وإن لم يكن غدٌ لك لم تندمْ على ما فرَّطتَ في اليوم“ - ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، 2/ 1388، وفي أمر التزويج روي عنه ﷺ الحديث المشهور: ”إذا جاءكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه، إلَّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير“ - الوسائل، الحر العاملي، 20/ 77، وكم امرأة فاتها قطار الزواج بسبب تفويت فرصة بل فُرص أتتها، لكنها لم تحسن هي أو وليها الاستفادة منها، وهناك شواهد أخرى كثيرة لا تخفى، والمأمول أن يُحسن كل منا استغلال الفرص، لكيلا يعضُّ أصابع الندم، حين لا ينفع الندم.