لغتنا المُضيعة
مرَّت علينا في الثامن عشر من ديسمبر الفائت مناسبة يوم اللغة العربية، ثمة مقالات كثيرة تحدثت بأسى عن تدهور اللغة وما ينبغي أن يُتخذ من خطوات لتحسين جودة تعليمها.
حديثي هنا سيكون مغايرًا بعض الشيء عن هذا المنحى، ما أود الإشارة إليه هي تلك اللهجات الكثيرة التي تمتلئ بها الجزيرة العربية والتي يجهل كثيرون ربما أن لها أصولًا قديمة في كلام العرب، وأنا بذلك أود أن أشير للقارئ الذي ينتمي لمنطقة جغرافية تستخدم هذه اللهجات بأن عليه أن يتأكد أن لهجته العربية سليمة وينبغي أن يعض عليها بالنواجذ وأن لا ينتابه الشك في صحتها وجذورها العربية السحيقة.
إحدى لغات العرب القديمة هي لغة الكشكشة وتنسب لبني أسد وربيعة وتميم، وهي لغة تقلب حرف الكاف الذي تنتهي بها الكلمة «شين» حين مخاطبة المؤنث، فتنطق مثلا كلمة «كيف حالك» ب «كيف حالش» وكلمة «أحبك» ب «أحبش» وهي لغة عربية فصيحة تحدث بها القدماء ومن شواهدها قول الشاعر: فعيْناشِ عيْناها وَجِيدُشِ جيدُهَا … ولكنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْشِ رَقيقُ.
ومن لغات العرب الأخرى لغة تستبدل اللام في «أل» التعريف ب «ألف وميم»، فتنطق مثلا كلمة «البيات» ب «أمبيات» وكلمة «السنان» ب «أمسنان» وقد ورد شاهد عليها في أحد الأحاديث الشريفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الطبراني في الكبير قوله «ليس من أمبر أمصيام في أمسفر» أي: ليس من البر الصيام في السفر.
ومن اللغات العربية القديمة كذلك لغة تقلب الجيم ياء فتنطق كلمة شجرة مثلا «شَيَرة»، وتنطق كلمة جزرة «يزرة»، ومن شواهد هذه اللهجة قول الشاعر: إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى ** فأبعدكنّ الله من شيرات، أي من شجرات.
ومن اللهجات العربية القديمة كذلك لغة تقلب القاف جيما، فتنطق كلمة «قاسي» مثلا ب «جاسي» وكلمة «ثقيل» بكلمة «ثجيل»، وكلمة «قليب» ب «جليب»، هذه اللهجات ولهجات كثيرة غيرها هي لهجات عربية فصيحة تحدث بها قدماء العرب، ولأن أجيالنا الحالية قد لا تدرك هذه الحقيقة فإنها تظن أن استخدامها هو نوع من الدونية، لذا فإنها تستبدلها بلهجات أخرى ربما لا يكون لها أصول في لغات العرب القديمة.
ما أجمل ما أتى به الشاعر حافظ إبراهيم حين قال بلسان اللغة العربية:
وسعتُ كتاب الله لفظًا وغايةً ** وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصفِ آلةٍ ** وتنسيق أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدرُ كامنٌ ** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
في يوم اللغة العربية أتمنى أن يعي الجميع أن كثيرًا من لهجاتنا التي توارثناها خلفًا عن سلف من أجدادنا في الجزيرة العربية هي لغات فصيحة أحرى بالتمسك والاعتزاز بها، وأن من المعيب جدًا أن تبدأ بعض أجيالنا باستبدال كلماتها بكلمات أجنبية أو ليس لها أصل في اللغة وهم يظنون حينها أنهم يحسنون صنعًا في حين أنهم يساهمون يومًا بعد آخر في ضعف اللغة وتراجعها إلى الوراء.