لن يكون هناك كُتَّاب
ترتوي الذاكرة من الصور فنحلم، نعبر سريعًا فنلتقطُ مشهدًا ناقصًا ولربما نُكمله، نسمعُ حكايةً فنسألُ عن حقيقتِها وقد نستدعي تأويلاتها.
يعمل التفكير إذًا ويتجلّى ذاتيًا، فينتج شيئًا مُختلفًا.
لكن ماذا لو سِرنا عاصبي أعيُننا بشاشة، الشاشةُ الفاتنة بحركاتها وصورها وتدفُّق معلوماتها وأخبارها اللامُتناهية.
الحقيقة المُرعبة التي قالها لي مرة ببساطة سائق أجرة «في الجيل القادم لن يكون هناك كُتَّاب، إنهم لا ينظرون حولهم!».
لا شك أنَّ فكرة الشاشة فكرةٌ عظيمة مُدهشة وأخّاذة، وأنا واحدة من جُلَّاسِها، لكن قلق السؤال هو عن كيف نبني الذاكرة الصورية الخاصة في ظلّ زحمة الشاشات؟.
يقول جوستاين غاردر أستاذ الفلسفة البلجيكي ومؤلف رواية عالم صوفي «في كل مشروع إبداعي، عنصر مصادفة، حيث إن كل عمل فني هو ثمرة تعاون جميل بين الخيال والعلم».
أين عنصر المصادفة إذًا من حالة الامتلاء والتُخمة التي تُصيبنا في كل لحظة، أقفُ وأنظر كيف ينزلق بنا هذا التدفّق لأماكن شتّى نتشتّت من بعدها.
نعم يُغنينا المحتوى كثيرًا، لكن إلحاح السؤال يتعلق بما يتصل بالخيال، الخيال كمعمل إبداعي يتغذى من الفراغ في الصورة، والناقص من المشهد.
المساحة غير المشغولة وغير المؤثَّثة في الرأس، تلك التي تُبدع صورَها الخاصة مع صوت المذياع، فتضع احتمالاتها تلقائيًا لهويّات المُتحدثين في الإذاعة، تختار ألوانها وتنتقي تأويلاتها الخاصّة جدًا.
هذهِ المساحة البعيدة، والأشبه بالعزلة تلك التي يتدفّق منها المجاز والكناية، المعمل الخاص بتحميض ذكرياتنا وصور طفولتنا، وإعادة إنتاجها في الكتابة والرواية واللوحة هو اليوم مُنتهك بالضجيج، فأيّ صورة شعرية سنُبدع غدًا وكل لحظاتنا تعيش في «الأون لاين».