فولتير: الخرافة أفضل من الإلحاد «2 - 2»
في عصر فولتير ارتبطت الخرافة بطبقة رجال الدين المسيحيين، وارتبط الإلحاد بطبقة الفلاسفة، والمدهش أن رجال الدين كانوا خصوم فولتير وأعداءه، والفلاسفة كانوا أصحاب فولتير وأصدقاءه، وبحكم هذه المعادلة كان من السهل على فولتير أن ينفر من الدين بسبب خصومته الحادة والطويلة مع رجال الدين، كما كان من السهل عليه أن يصبح ملحدًا بسبب صحبته الحميمية والطويلة مع الفلاسفة، لكنه قلب هذه المعادلة، فلا الخصومة مع رجال الدين دفعته إلى الابتعاد من الدين، ولا الصحبة مع الفلاسفة دفعته إلى الاقتراب من الإلحاد، مقدمًا صورة مغايرة عن نفسه، متفردًا بها على أقرانه.
العارفون بسيرة فولتير يذكرون أن إيمانه بالدين ظل يتصاعد وبالذات في سنواته الأخيرة، ولم يتراجع هذا الإيمان ولم ينكمش أو يتقلص، وظهر ذلك جليًا في مجادلات فولتير المستمرة مع أقرانه الفلاسفة، معلنًا تمسكه بالدين، والإيمان بوجود الله، مقدمًا نصوصًا بليغة في الدفاع عن الدين.
من هذه النصوص ما دوّنه فولتير مجيبًا على سؤال زميله بيير بايل «1647 - 1706م»، قائلا: «لا بد للبلد ليكون صالحًا أن يكون له دين، أريد من زوجتي وخياطي ومحامييّ أن يؤمنوا بالله، وبذلك يقل غشهم وسرقاتهم لي... لقد بدأت أعلق أهمية أكثر على السعادة والحياة من الحقيقة».
ويذكر الكاتب الأمريكي ول ديورانت «1885 - 1991م» في كتابه: «قصة الفلسفة» أن فولتير دافع عن نفسه برقة ضد أصدقائه الملحدين، وقد وجه كلامًا إلى هولباخ «1723 - 1789م» المعروف بإلحاده، قائلا: «لقد قلت أنت نفسك إن الإيمان بالله قد ساعد في إبعاد بعض الناس عن ارتكاب الجرائم، إن هذا وحده يكفيني، فإذا كان هذا الإيمان يمنع من وقوع عشرة اغتيالات وعشرة وشايات، فإنه يجعلني أتمسك بأن يؤمن كل العالم بهذا الدين، أنك تقول إن الدين قد سبب أيضًا في كوارث لا حصر لها، وكان الأجدر بك أن تقول الخرافات الدخيلة على الدين التي تتحكم في عالمنا البائس، هذه الخرافات والأساطير هي أقسى عدو لنا يصرفنا عن عبادة الله عبادة خالصة تليق به، دعنا نمقت شبح الخرافات التي أدخلت على الديانات فشوهتها».
هذا هو فولتير الذي خاصم رجال الدين المسيحيين الأقوياء وتمسك بالدين، وصاحب الفلاسفة الملحدين الأقوياء وتمسك بالدين، حدث ذلك في عصر انتصر فيه الفلاسفة على رجال الدين، وفي عصر انبثق فيه التنوير، مع ذلك آمن فولتير بوجود الله ورفض الإلحاد، مطلقًا مقولة إن الخرافة أفضل من الإلحاد.