ثقافة الحبس الانفرادي
تكتسحنا هذه الأيام ثقافة غريبة عجيبة مخيفة عبر المنشورات الإلكترونية والميديا و«الوتس آب»، بل وحتى الدورات والأشعار وغيرها، جميعها تدعو إلى الكتمان، إخفاء الوجع، تمثيل القوة رغم الضعف والاكتفاء بالذات فقط وفقط، الحجج المبررة لهذا التيار هي أن لا أحد يريد أن يسمعك ولن يساعدك أحد وأن الشكوى لغير الله مذلة، بمعنى أن هذا التيار يؤصل لسوء الظن بالبشرية جمعاء ويستجيب للإيقو فيخلق صورة ذاتية وهمية ويخالف الفطرة التي فطرنا الله عليها.
فردة الفعل الطبيعية للإنسان عندما يصيبه الضر ألمًا، خوفًا، حزنًا، أن يصرخ ويبكي ويذرف الدموع، وما تلك الانفعالات الجسدية بهدف أن يدرك الإنسان ما يخالجه، فهو يحس به أصلًا وإنما هدفها أن يشعر به الآخرون، فهي إذا نداء استغاثة فطري وله استجابة فطرية أيضًا بمد يد العون.
إنّ تبنّي مثل هذا السلوك له عواقب صحية ونفسية واجتماعية وخيمة جدًا، فالكتمان على سبيل المثال له ارتباط مباشر بأمراض الغدة الدرقية والقلب والشرايين، ناهيك عن أنه يقود إلى الغرق في غياهب الكآبة وطيف من الأمراض النفسية الأخرى، أما اجتماعيًا فإن ارتداء تلك الأقنعة السعيدة القوية المزيفة المخالفة لدواخلنا هي في الحقيقة بناء جدران خرسانية عالية نسجن فيها أرواحنا بعيدًا عن النسيج الاجتماعي الحميم الذي من المفترض أن يحوينا.
في المجتمعات التي سبقتنا للصمت أصبح الناس يدفعون مبالغ طائلة لمعالج نفسي كي يسمع شكواهم فقط ويسألهم السؤال الأعمق والأبسط «كيف تشعر حيال ذلك؟»، في الحقيقة نحن لسنا بحاجة لمعالجين نفسيين بهذا القدر وليس علينا حين نبحث عن الدفء أن نمسك بكفنا الأخرى، ولا أن نكتفي بذرف دموعنا في خلواتنا حيث لا يسمعنا إلا الله، متناسين تمامًا أنه - جل في علاه - هو من سخر بعضنا لبعض وأمرنا أن نتعاون على البر الذي قلبه إغاثة الملهوف وجعلنا شعوبًا وقبائل كي نعرف ما الذي يدور في أفلاكنا.
لقد طور الإنسان اللغة والأدب وأنواع الفنون لحاجته الملحة للتعبير عن ذاته، ليبوح، ليبث همه، ليشكو، فكيف نأتي الآن ونقمع ذلك التدفق الطبيعي.