الإنسان ورحلة البحث عن الإله
تفيد الدراسات العلمية لعلماء الآثار وأبحاث علم الأنثروبولوجيا بأن رحلة الإنسان في البحث عن إله هي فكرة قديمة جدا. أي لم يكن همه الاكبر هو البحث عن مأوى أو مأكل كما يعتقد البعض، وإنما كانت عملية البحث عن معبود هي إحدى حاجاته الأساسية أيضا.
ويقول أحد المؤرّخين: لقد شيدت مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا تعليم، ولكن لم نجد مدن بلا معابد.
وعلى سبيل المثال ازدهرت مدينة بابل في عهد نبوخذ نصر بالمعابد، وقد ورد في الكتابات المسمارية مصطلح باب الاله. ويقول طه باقر في كتابه مقدمة في تاريخ الحضارات بأن تلك الخطوط المسمارية أقدم من حقبة حمورابي أو نبوخذ نصر، أي إنها قد تعود إلى قوم مجهولين قد سبقوا حضارة سومر، وتلك إشارة إلى إن الانسان كان يبحث عن إله بالفعل حتى قبل تأسيس أول شريعة على وجهه الارض وهي شريعة حمورابي.
وتشير الأبحاث بأن الإنسان القديم الذي عاش في فترة ما قبل التاريخ، أي قبل العصري الحجري، بأنه هو من ابتكر النار عن طريق الصدفة حينما قام بضرب الحجر ببعضه البعض. ويبدو بأنه جعل من النار إله له وراح يعبدها.
إلا أن الجزائري في كتابه قصص الانبياء يقول بأن قابيل هو أول من عبد النار من البشر، ويبدو بأن هناك اتفاق بين المؤرخين الإسلاميين والإنجيليين بأن الأخير هو من ابتكر عبادة النار. وبالرغم من ذلك الاتفاق إلا أن هناك من يرى بأن الإنسان القديم قد أدرك حركة الشمس والقمر قبل اختراع النار، ومن المرجح بأنه قد عبد الطبيعة قبل النار. وهذا موطن خلاف في المحطات التي مر بها الانسان خلال رحلته في البحث عن إله. وفي محاضرة علمية للدكتور العراقي عامر الخفاجي يقول بأنه تم اكتشاف نقوش يعود تاريخها إلى العصر الجليدي والتي تدل على أن الانسان قد عبد الحيوانات.
وكل تلك الدلائل المرتبطة بطقوس العبادة والتي مرت على تاريخ البشرية تشير إلى أن مسألة العبادة جانب غريزي في الانسان، لكنه يختلف في المضمون والشكل من ديانة إلى أخرى، بل حتى إن الاختلاف قد يصل الى أبناء الديانة الواحدة. فمعنى العبادة هي التذلل والخضوع والطاعة للإله بغض النظر عن نوع الاله. ولو أننا أمعنا النظر في السلوكيات المرتبطة بالعبادة تجاه الشي المعبود سوف نجد بأن جميعها تنحصر تحت معنى «الخوف». وهي نفس الغريزية التي رافقت الانسان في العصري حجري عندما عبد النار، وكذلك هي نفس الغريزة عندما يقف الانسان يصلي امام الكعبة، أو عندما يسجد أمام بوذا، أو عندما يبكي قبالة الصليب والمذبح في الكنسية.
ولقد وردت كلمة الخوف والرهبة في القرءان في أكثر من موضع «وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ». وقد وردت الكلمة أيضا في الانجيل وبالتحديد في سفر الأمثال «مخافة الرب تقود إلى الحياة والراحة والسلام والرضى».
والسؤال لماذا يضع الانسان نفسه في موقع الخضوع والتذلل؟...
ولكي يتضح الامر فلا بد من أن نقوم بتفسير بسيط لسلوك الانسان استناداً لنظرية التحليل النفسي بأن غريزة الخوف تولد مع الانسان. فالطفل يبكي عند غياب أمه ويسكت في حضورها، ويتمثل ذلك في إدراكه للحاجة النفسية وهي الأمن والحاجة البيولوجية وهي الحليب. وتستمر غريزة الخوف بالنمو مع الانسان مروراً بالمراحل والأحداث المختلفة مع محاولة ان يشبع حاجته ويزيل عامل الخوف في كل موقف.
وفي إحدى المراحل يدرك الانسان من خلال التربية والتعليم أو الاحداث التي يمر بها بأن مستوى الأمن قد اختلف كثيرا عن مرحلة الطفولة، ولم تعد أمه قادرة على إشباع حاجة الأمن لديه كما لو كان طفلا. فبالتالي وفي الوقت نفسه يعمل الميكانزيم الدفاعي الفطري للبحث عن شيء ما يخفض درجة القلق لديه، ويتمثل ذلك في ضغط الأنا الأعلى «الضمير» على الأنا «سلوك الانسان». وبالتالي يلجأ للقوة العظمى «الإله» والتي تفوق كل المخلوقات في منح الرحمة والمغفرة. ويتمثل ذلك اللجوء في أداء الطقوس الدينية المختلفة. وعندما يحصل على الاستقرار النفسي تثبت لديه فكرة الانتظام في العبادة، ويبقى الانسان ضمن ثالوث الدين «خوف - عبادة - استقرار».
أي عند شعوره بالخوف يلجأ للعبادة، وعندما يحدث الاستقرار والذي يتلاشى بعد فترة وجيزة يولد الخوف من جديد، ثم يلجأ للعبادة وتستمر هذي العملية بشكل لاشعوري.
وقد دعت أغلب الاديان لأن يبقي الانسان عامل الخوف مصدر للأمان، كما جاء في الآية الكريمة﴿وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ومن اليقين بأن رحلة الإنسان لن تنتهي في البحث عن إله، إلا أنه سيبدأ من الخوف وتنتهي به الرحلة عند الخوف.