القرآن وإعادة إنتاج المعنى!
يرى بعض اللغويين بأن بعض النصوص ومنها بعض النصوص الدينية كالقرآن مثلاً تحمل زخما دلالياً وطبقات مختلفة من المعاني، التي يساهم المتلقي أو القارئ نفسه في إنتاجها وإعادة إنتاجها كلما أعاد وكرر قراءة تلك النصوص. فهي من النصوص المفتوحة والمتعددة العابرة للأزمنة والأمكنة والتي تتعدد فيها القراءات والبرهنة على تلك القراءات إلى حد التناقض أحياناً على حد تعبير رولان بارت «1915 - 1980». فمثل تلك النصوص التي يكتنفها الغموض، وليس الإبهام، تتطلب جهداً من القارئ كي يكشف عن المعاني المستترة فيها والتي شبهها بارت بالبصلة الضخمة التي لا ينتهي تقشيرها، فكل غشاء يؤدي إلى غشاء آخر. ولعل هذا ما أشار إليه القرآن في قوله، ”وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ“، وكذلك ما جاء في الأثر، إن صح ذلك طبعاً، بأن لكل آية ظاهر وباطن، ولكل حرف مطلع أو ما شابه ذلك من قول.
طبعاً، لاشك أن القارئ يحتاج إلى الإحاطة أيضاً بالسياق الذي جاء فيه النص كي يحصر المعنى فلا يفلت من ذلك السياق، الذي اعتبره إدريس مقبول لغة غير لفظية «non - verbal language» متممة للغة اللفظية - النص الملفوظ أو المكتوب - وجزءاً منها، ليتشتت ويصبح مغلقاً ومبهماً بشكل مطلق. ولكن، ومع أخذ السياق بعين الاعتبار، فإن مثل تلك النصوص لها عدد لانهائي من المراكز أو البؤر التي توفر لعملية التلقي والنص شرطاً أساسياً من شروط الكتابة المبدعة، هو لانهائية احتمالاتها كما يرى عبدالقادر فيدوح. فالملقي والسياق والنص والمتلقي يتفاعلون جميعاً لتتولد وتتوالد المعاني ويعاد إنتاجها أيضاً. فدور المتلقي أصبح ركنا أساساً في الكشف عن تلك المعاني الغامضة أو المختبئة في البنيات العميقة لتلك النصوص. وبذلك فإنه لابد للمتلقي أن يبذل جهداً حتى يفتح الصدفة ويستخرج منها لآلئ المعاني. ومثل ذلك الغموض الذي لا ينكشف أمام المتلقي إلا بجهد، هو ما جعل أبا إسحاق الصابيّ «ت 384 هـ » يقول بأن، ”أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه“. وتبعه في ذلك عبدالقاهر الجرجاني «ت 471 هـ » أيضاً كما ورد في كتابيه ”أسرار البلاغة“ و”دلائل الإعجاز“.
وحيث أن المتلقي أو القارئ أصبح أُساً من أسس ولادة المعنى، فلا مندوحة إذاً من أن يشحن نفسه بما يحتاجه من علم وأن يجدد آلاته المعرفية وأدواته المنهجية في كل مرة يعيد قراءة النص القرآني كي يخرج بمعنى آخر جديد مختزن بين طيات ذلك النص. ولاشك أن تعدد المعاني والكشف عنها يشير إلى ثراء النص وصموده أمام رياح الزمان والمكان العاتية التي تريد أن تدفعه إلى الوراء لتحصره في زمان ومكان ولادته ليموت ويُدفن فيهما. ومهما يكن من الأمر، فإنتاج المعنى الجديد يتطلب تعبئة علمية وفكرية ووعياً جديداً من قِبل المتلقي لتتفاعل تلك التعبئة وذلك الوعي مع القراءة الجديدة فيخرج المتلقي بإنتاج جديد للمعنى، كما قلنا، وإلا خرج بنسخ مكررة من المعاني القديمة التي تعود إلى الماضي. وبالطبع، فإن ذلك يُفقد النص حيويته والمعنى حركيته وقدرته على التوالد والتكاثر. ومن هنا فإنه يتحتم على من يتصدى لتفسير القرآن أن يلم بالدراسات والمناهج اللغوية واللسانية الحديثة كي لا يصبح أسيراً للماضي فيجتر ما أنتجه السابقون ولا يفيد مما ينتجه المحدثون. ولعل بعضاً من النصوص الدينية أشارت إلى بعض ما ذكرت حينما حثت القارئ على معاودة قراءة القرآن والتدبُّر فيها بعد أن يتسلح بالعلوم اللغوية واللسانية الحديثة ويجدد أدواته المعرفية، فقد جاء في القرآن الكريم، ”أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها“؟