الحاجة للإنتماء
منذ بدء الخليقة يعد اتجاه الإنسان للعيش ضمن جماعات السمة الأبرزفي سلوكه؛ ويعلل سبب هذا الميل بنداء الحاجة الذي يشحذ الفرد للبحث عن زمرة تشاركه أسباب العيش وتشاطره منهجه الفكري وتدرأ الأذى عنه عند الحاجة فيؤمن بانتمائه إليها متطلبات العزة والمنعة. وإن اختلفت هوية هذا الجماعة بظاهرها في كونها أسرة أو عشيرة أو قبيلة أو أندية إجتماعية أو مؤسسة ذات طابع ديني، وكذا إن اختلفت طبيعة أفراد الجماعة الواحدة من ناحية الذكاء الغريزي والشغف المعرفي إلا أنهم متشابهون جداً في كل ما يربطهم ببعضهم من مشاعر ومجمعون في آرائهم تجاه كل ما يعزز انتمائهم العرقي أو طريقهم العقائدي.
حاجة الفرد للإنتماء حقيقة لا يستطيع الفرد التجرد منها؛ لكونها طبيعة فطرية مرتبطة بإحتياجه النفسي كما صنفها ماسلو في هرمه، وإدعاء غير ذلك كمن يزعمون على قدرتهم في الإستغناء عنها يعد محظ مكابرة تلقي بمدعيها للعيش في براثن غربة الذات والصراع النفسي اللذان لا أمد لإستئصالهما من روح صاحبها كلما تقادمت المدة وتشعبت دواعيها.
يتطلب الإنتماء لأي فئة كانت التقيد فيما ترتئيه الجماعة من ضرورات والتزامات، يتحتم فيها على كل فرد الإلتزام بدوره الذي يحفظ للمجموعة استتقرارها وتماسكها ويدفع بها إلى حيث تأمل. فبجانب الدور الداعم الذي تقدمه الجماعة تجاه من ترى له شأناً ودورًا فاعلًا بين ظهرانيها، إلا أن الإقصاء والتقريع هو المصير الذي سيلحق من يعمل على الإضرار والإخلال بقيم المجموعة، أوالتحرك خلاف رؤيتها وتطلعاتها، وإن كان عن غير قصد.
تبدأ حياة الفرد منذ صغره بإنتمائه لأسرته التي تعزى في كونها مؤسسة صغيرة ينطبق عليها ما ينطبق على كيان أي مجموعة من أدوار والتزامات. وحيث أن الحاجة الفطرية لتعزيز وتغذية هذا الإنتماء تدفع بالفرد منذ صغره نحو أي سلوك أو فعل يشبع فيه هذه االإحتياج، فقد يلجأ ومن غير وعي كاف إلى اتخاذ سلوك يبرز فيه ذاته كشخص مستقل لا تروقه قيم مؤسسته الصغيرة، فيعمل جاهدًا على الإتيان بكل ما يراه أولى بأن يتبع وأجدى بأن يُعمل به، فيكون هو المقنن الأول الذي يدير سيرحياة أفراد هذه المؤسسة، وبغض النظر عن ما ستتجه إليه الأمور داخل الكيان الأسري انصياعًا لمطالبه، أو عزمه هو كمشرع على الإنشقاق عن مقر انتمائه، فإن هناك ضرورة تستدعي أن يلتفت لها ربا الأسرة باكرًا، بحيث يحتضن الفرد في المرحلة العمرية الأولى من حياته فيعي ما له وما عليه من واجبات داخل هذا الإطار الأسري إلى أن يبلغ رشده، فهناك أهمية بالغة لتنشئة الفرد في هذه المرحلة العمرية ضمن إطار يؤصل فيه الإحساس الخُلقي، ويزرع فيه الشعور بالمسؤولية، ويعمق فيه المعاني الحقيقية للإنتماء، فيُربى على تجاوز ما تدعو إليه بعض النعرات الضيقة، فنحن عندما نعلم ذاتنا أو من هم تحت رعايتنا معنى الإنضباط فإننا نصل بهم إلى مرحلة يعون فيها بماهية العيش ضمن إطار المجموعة، وبمعنى أن يكونوا مسؤولين لائقين في كل كيان ينمون فيه وينتمون إليه.